يؤكد "برتراند راسل" في كتابه (السلطة والفرد) على أهمية الخوف الفطري لدى الإنسان في التأسيس للتجمعات البشرية ويسرد تفاصيل عن دور الخوف (تاريخيا) في تشكيل الأسرة ومن ثم الانتقال إلى العشيرة فالقبيلة وصولا إلى الدولة والتجمعات الامبراطورية الكبيرة، خاصة مع وجود تجمعات بشرية مجاورة تعتمد أيضا على الموارد ذاتها في تأمين غذائها ومتطلباتها آنذاك، ما كان يؤدي في غالب الأحيان إلى حدوث صراعات على الحدود، ويرسم "راسل" أنواع الخوف وأساليب استثماره من قبل الشخصيات أو الهيئات الحاكمة، منها استثمار عامل (الخوف عبر القهر) ويعني إشاعة الخوف في تجمعات بشرية من قبل تجمعات أخرى ربما أكبر عدديا أو أكثر قدرة على القتل والتدمير وإلحاق الأذى، فلا يكون أمام الجماعة المغلوبة سوى الرضوخ ولتحقيق استمرار هذا الرضوخ تحرص الجماعة المسيطرة على التلويح بالقوة والقدرة على إعادة عمليات القتل بين صفوف الجماعة المهزومة في حال حدوث أي تمرد.
وهذا النوع من الخوف (الخوف بالغلبة) ما يهمنا الاستطراد حوله في مقالتنا هذه، ولن نعود للحديث عن الخوف الذي زرعه النظام لدى الأقليات، فلقد نال هذا الجانب الكثير من الاهتمام، وحقق للنظام الكثير من الأهداف على الصعيد المحلي وتأمين وقوف الأقليات معه في خندق محاربة (الإرهابيين والمتطرفين)، فما أريد عرضه هنا، يتعلق بالحديث عن خوف الأكثرية الذي نجح النظام في تحقيقه عبر الدمار الكبير والمتعمد الذي أحدثه في المدن التي استعادها من قبضة الثوار، واستثمار ذلك في التفاوض مع المجموعات المعارضة المسلحة في مناطق أخرى، مثل داريا والغوطة والمعضمية وغيرها من المناطق التي شهد أبناؤها بأم العين حجم الدمار والموت الذي ألحقه النظام في المدن (المحررة)، فكان لتلك الصور المنشورة على وسائل الإعلام الكبيرة مفعول عكسي، فبدلا من إثارة الرأي العام العالمي للوقوف إنسانيا على الأقل في وجه هذه الإبادة الجماعية، حدث العكس تماما، فمع تقاعس المجتمع الدولي وشعور أبناء تلك المدن بأنهم تعرضوا للغدر والخيانة، دب الذعر في نفوسهم، وكان للنظام تحقيق ما أراده عبر دسه لتلك الصور والفيديوهات في وسائل الإعلام.
إذا عمليات التدمير الواسعة واستباحة الدماء والأعراض والأرزاق بكل استسهال لم يكن دافعه الحقد فقط والرغبة في الانتقام، وإنما كان ممنهجا بقصد بث روح الذعر والخوف لدى أبناء المدن الأخرى، وإشاعة روح الخشية من تكرار ذات السيناريو في مدنهم، كل شيء كان يسير وفقا لخطة موضوعة مسبقا، غرضها التخويف ودب الذعر لتحقيق الانتصار بأقل التكاليف.
في استطراد بسيط نقتبسه من "نعومي تشومسكي" حول أهمية الإعلام في حياة التجمعات البشرية، ومن كتابه (السيطرة على وسائل الإعلام) حيث يتحدث "تشومسكي" عن أهمية الصورة في تحقيق أهداف من يبثها أو يلونها أو يلعب الدور الرئيس في صناعتها سواء أكانت صورا مزيفة أم صورا حقيقية، وفي هذا الجانب بالذات نجح النظام في تحقيق أقوى استثماراته مستفيدا من جهل إعلامي عربي وسذاجة المؤسسات الإعلامية سواء عل الصعيد العربي أو صعيد إعلام الثورة، حيث مزج النظام بين عامل الخوف من جهة وعامل الصورة الإعلامية من جهة أخرى لتحقيق هدفه في صناعة الخوف وصياغة أشكاله وملامحه لفرض إرادته ورسم أشكال (انتصاراته)، فإما التسليم وأما مواجهة المصير الذي لقيته باقي المدن الأخرى من دمار وقتل وتهجير، ولقد نجحت هذ السياسة في كثير من المواقع منها ما ذكرناه أعلاه في محيط مدينة دمشق.
لقد أصبحت كلمة تحرير التي كان يطلقها إعلام الثورة، تعني عند البعض قرب قدوم الطائرات والدبابات ومختلف أنواع آليات القتل التدمير، فبات التحرير مرادفا للذعر والرغبة في الهجرة، وقد يكون هذا الكلام قاسيا على البعض، ولكني أعتقد أن زمن الكلام القاسي قد جاء ولا بد من وضع الأخطاء تحت دائرة الضوء، ولا أدل على هذا الكلام، غير تلك المسيرات التي شهدتها الغوطة منذ أيام والتي أعلن فيها المتظاهرون أنهم لم يعودوا يريدون الحرية، لقد كانت هذه المظاهرات صفعة في وجه سلوكيات الثوار، وصفعة أقوى لإعلامه الساذج القائم على أولاد لا يمتلكون من الخبرة الإعلامية غير ما وصلهم من كاميرات لتسجيل اللحظة بلغة إعلامية بائسة، وحتى لغة الإلقاء كانت باهتة وتثير الاستغراب أحيانا من إصرار الفصائل على استخدام أولئك الإعلاميين الأغرار.
إضافة إلى ذلك فإن النظام عمد إلى الاستفادة من العامل الايديولجي أيضا، وهذا جانب لا ينبغي إغفاله أو تجاهله، فكما يرى تشومسكي أنه وعلى سبيل المثال، لم يكن ممكنا لدولة قليلة العدد مثل بريطانيا أن تسيطر على نصف العالم وعلى مجتمعات كبيرة تشمل الصين والهند والعراق ومصر دون الاعتماد على الايديولوجيا، فهي غير قادرة لا عسكريا ولا عدديا على لجم كل حركات التمرد في هذه المساحة الشاسعة من الكرة الأرضية.
لجأ النظام إلى الايديولجيا، وهي هنا لم تكن بالتأكيد الايديولوجية الخاصة بحزب البعث، فالبعث انتهى اساسا منذ سنوات ولم تعد أفكاره تقنع أحدا وتحولت شعاراته إلى سلسلة من النكات يتبادلها الشارع السوري، وإنما اعتمد على الاستفادة من الايديولجية الإعلامية العالمية ، ايديولوجيا تريد رسم الإسلام وفقا لما يراه العالم الغربي، ووفقا لما تراه مصالحها ومصالح شركاتها ورأسمالها الباحث عن الربح والاستثمار في الخراب السوري، فكانت صورة الإسلامي السفاح القاتل الحارق الخارج على الأخلاق والقانون ومبادئ الإنسانية، هذه الصورة هي التي تسيدت وسائل الإعلام العربية والغربية في آن، فكان للنظام أن استفاد من هذه الصورة المؤدلجة في تعزيز قدرته على تحقيق أكثر من مكسب في آن واحد، منها أحقيته في محاربة هذا الإسلام المتطرف وتسويق نفسه كخندق أول في محاربة التطرف، وما ترك مدينة دمشق تحت تهديد خطر (الارهاب الإسلامي) طيلة السنوات الماضية، إلا ليستثمره في إشاعة الخوف عالميا، والإيحاء بقرب وقوع العاصمة تحت سيطرة الإرهابيين.
في الجانب المقابل، لم يكن إعلام الثورة على ذات الكفاءة في التصدي لهذه الحملة، بل إنه أسسهم في تكريس صورة المقاتل (الإرهابي) حتى أن بعض قادة المعارضة المعروفين أصدروا تصريحات، كانت بمثابة السكين التي تحز ظهر الثورة، عبر تبنيهم لبعض الفصائل المحسوبة دوليا على أنها إرهابية وإصرارهم على أنها جزء من الثورة وجزء من العمل الثوري، وسنفرد لهذه الموضوع حصة منفصلة لأهميته ولكثرة مثل هذه الأخطاء وتأثيرها على تشويه صورة الثورة، وتقديم الخدمات المجانية للنظام وإعلامه.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية