قد لا تبدو عملية إسقاط الغوطة واجتياحها –في الظاهر- أكثر من عمل عسكري همجي مغلف بغلاف سياسي تتداخل فيه مواقف التأييد العلني بالرضا المضمر، أما في "الباطن" فهناك خفايا وملابسات، وتفاصيل تذهب عميقا جدا، وبعيدا جدا؛ لتعيد فتح الأبواب على مصاريعها، حول علاقة السلطة بالدين، ونقصد بها تحديدا علاقة بيت الأسد بالتيارات التصوفية المختلفة ورجالها، مستندين إلى نموذج "الشيخ بسام دفضع".
ويمثل هذا التقرير -إلى حد ما- دراسة بحثية مصغرة ومكثفة، لاتكتفي بالتحري عن الصلات النظرية بين الطرفين، بل تحاول ربط ذلك وإسقاطه على الواقع، بعيدا عن لغة التعميم وعن التعسف في التأويل والربط، واستنادا إلى مؤلفات من يعد "دفضع" شيخه ومرجعه.
وينقسم هذا التقرير إلى جزأين رئيسين، الأول يسلط الضوء على التقاطعات اللافتة بين "الطريقة" التي يتبعها "دفضع" وبين عموم مذاهب "الباطنيين"، وبالأخص العلويين الذين يعتمدون كتاب "الجفر" مرجعا ودليلا لهم في استقراء أحداث "ما كان ويكون"، حسب ما يُنقل عن لسان "جعفر الصادق".
أما الجزء الآخر، فيعرض معلومات موثقة عن تاريخ "بسام دفضع" وحقيقة علاقته بالثورة السورية، وصولا إلى تورطه في تسليم بلدات من غوطة دمشق للنظام، تحت ستار "المصالحة".
*احم لنا الحمى
عجزا عن فك الطلاسم ومغاليق العبارات، أو حجبا بفعل أوامر كبرائهم (أقطاب، أئمة، أوتاد...)، يغفل معظم سالكي الطرق الصوفية ومريديها عن كثرة التقاطعات التي تجمع طرقهم بأتباع المذهب العلوي، والتي شكلت قناة خلفية أو خفية، كان مفتاحها على مر العصور بأيدي "الراسخين في الأسرار"، و"المؤتمنين على العلم" من الطرفين، ممن يحرم عليهم البوح بكل شيء ولكل أحد، كما يجدر بهم أن يقولوا فيطاعوا، ويتوجب على أتباعهم أن يكونوا بين أيديهم كالميت بين يدي من يغسّله.
وقد كشفت وقائع الأحداث الأخيرة في سوريا، أن العامل الديني لعب دورا محوريا للغاية في ترتيب أوراق النظام وحلفائه على الأرض وبين الناس، فبواسطة هذا العامل أعاد النظام إلى حضنه عددا لايستهان به من المحسوبين على السنة مستفيدا من دعواهم بأنهم "أبناء آل البيت وأحباؤهم"، وجندهم في صفوفه يدافعون عنه وعن إيران، وبفضل هذا العامل تم تغييب شريحة واسعة عن الوعي وتحييدها وجرها إلى أقصى المنطقة الرمادية.
وعلى وقع العامل الديني رسم "الشيخ بسام دفضع" (سنأتي على مفصل تاريخه في الجزء الثاني) صلته بالنظام، وعقد صفقاته معه، بوحي من موقعه كـ"سلطان" للطريقة التي يرأسها، ومسؤوليته عن "حماية" الأتباع والمريدين.
فـ"دفضع" في عيون مريديه ليس سوى نسخة مكررة ومحدثة من أحد أقطاب الرفاعية المتأخرين، ونقصد به "الرواس" المتوفي نحو 1870 م، والذي يصل نسبه إلى"أحمد الرفاعي" مؤسس الطريقة الأكبر، والمتسربل بحلل من ألقاب التفخيم والتقديس.
ومن هذا الاعتبار يقرن مريدون بين صور "دفضع" وشطر بيت لـ"الرواس" يقول فيه: "في الكون يظهر كالضحى سلطاني"، وتتمته: "ويلوح مظهره لأهل زماني// هي نوبة علوية نبوية، أعلى منابر شانها العدناني"، بينما يراه آخرون جديرا بمقطوعة ينشد قائلها:
تحركْ أيا سلطان واحم لنا الحمى/ حمانا بنا راع ونحن العواجز
عاجز وعيان! أيا عيان ناديني/ أنا الفاعل وحامي لمريديني.
ويبدو أن السلطان "دفضع" قد تحرك بوحي من هذا لحماية نفسه ومريدي طريقته، حتى ولو كان ثمن ذلك قتل وتشريد ما تبقى من أهل الغوطة وتسليمها لقمة سائغة لمن يؤمنون بـ"الجفر" دليلا، ما دام هذا "الجفر" نفسه مرجعا ونبراسا لـ"الرواس" نفسه، إمام "دفضع" وقدوته، وفقا لما ورد في مواضع كثيرة من مؤلفات عديدة، دبجها "الرواس" وما زالت تحظى بعناية المحققين والناشرين كل حين، باعتباره "غوث الوقت، وفرد العصر، وصاحب منصة النيابة الكبرى، ورب المحاضرة المؤيدة العظمى... وطمطام موجة البحر النبوي، وشارقة طالعة المعنى العلوي"، كما يصف ذاته، بلا فخر!
*90
وللإضاءة على أفكار "الرواس" –شيخ "دفضع" وإمامه-، وتقاطعاتها مع مذاهب أهل "الباطن" وفي مقدمتهم العلويين، فقد اعتمدنا على مؤلفات محققة بأيدي مريدين لطريقته، ومطبوعة في دور نشر معروفة، ومرقمة حسب الأصول، ولم نلجأ إطلاقا إلى "قيل عن قال" ولا ملخصات ولا قراءات عن تلك المؤلفات، حرصا على المصداقية وبعدا عن الانحياز الممقوت.
وقد توخينا النقل الحرفي الدقيق عن تلك المؤلفات التي خطها "الرواس"، وتحاشينا الاجتزاء أو القفز عن بعض الجمل ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ليقيننا بأن في الحقيقة ما يكفي من الوضوح ومن القوة التي لاتحتاج معهما إلى من مزيد دعم وتأييد، بقدر ما تحتاج إلى من يخرجها إلى النور.
وقبل الشروع في عرض تلك المقتطفات، والتعقيب على بعضها حين يلزم التعقيب، رأينا أن نقدم نبذة تعريفية مختصرة عن "الرواس"، وهو اللقب الذي عرف به "محمد مهدي بهاء الدين" ويضاف إلى اسمه أحيانا وصف "الخزامي الصيادي الرفاعي الحسيني" كناية عن نسبه.
أما ألقاب الرجل الذي ولد في إحدى قرى البصرة بالعراق، فهي كثيرة للغاية كحال كبراء الصوفية، فهو: الغوث والإمام والأستاذ وسلطان الأولياء و... إلخ، وهي ألقاب خلع جلها على نفسه بنفسه، وتكفل مريدوه بإتمام الباقي؛ لتنتصب أمام كل من يقرأ سيرته صورة بشر، بلغ درجة الإلوهية أو كاد.
ووفق ما يورد أتباعه، فقد ألف "الرواس" كثيرا من الكتب والمصنفات (تنوف عن 90 مؤلفا لدى بعضهم)، منها: طي السجل، رفرف العناية في الوراثة والولاية، الغارة الإلهية، البوارق، الكنز المطلسم، فصل الخطاب، البوارق.. مع تنويه بوجود اختلاف بسيط أحيانا بين عناوين هذه الكتب وسواها، تبعا للشخص الذي حققها والدار التي نشرتها.
وسنعتمد في تقريرنا هذا على مؤلفين هما: رفرف العناية، وكتاب آخر طبع في لبنان قبل 5 سنوات، وجمع فيه محققه نصوصا كثيرة من مختلف مصنفات "الرواس"، وضمّنها في كتاب سماه "بهموت الغيوب"، والبهموت جمع مبالغة وتعظيم لكلمة "بهم" على وزن ملكوت وجبروت، ومفردها "بهم" هو ما استغلق فهمه وصعُب إلى درجة كبيرة، وهذا "البهموت" في النهاية هو حال معظم مؤلفات الصوفية وأهل المذاهب الباطنية، التي تغرق في بحر طلسمة العبارات والتهويمات وتلغيز الجمل وترميز المفردات، حتى يخيل إلى من يقرأها أنه يغني عقله ويرتقي بفهمه، في حين أن تلك الطلاسم تعد وسيلة لتمرير وشطحات تزدري العقل وتتحدى المنطق، ناسبة كل ذلك إلى فيوضات ومكاشفات وحضرات و..، ينهض فيها الموتى من قبورهم ويخرقون جداري الزمان والمكان (نواميس الله في كونه) وكأن هذه النواميس رهن إشارتهم وطوع إرادتهم، فيحدث هؤلاء الأموات "الرواس" كما حدّثوا زعماء الصوفية من قبل، حديث فم إلى أذن، ويبشرونهم ويأمرونهم وينهونهم، بل ويخلعون عليهم الألقاب، كما خلع النبي صلى الله عليه وسلم لقب "غريب الغرباء" على الرواس، حسب زعم الأخير.
*نحن آيات الله
لاينفك "الرواس" كل حين عن ذكر وصايا وأحاديث يدعي أنه سمعها عن النبي في المنام أو تلقاها منه مباشرة في "حضرة الحضور"، فاتحا باباً لا يسد للتقول على نبي الإسلام ونسب كل ما يخطر –وما لا يخطر- على البال إليه، باعتبارها "وحيا" متجددا، عن نبي يتفق كل العقلاء أن الوحي انقطع بموته!
وغالبا ما تتداخل شطحات "الرواس" مع نرجسية فاقعة تجسدها أنا متورمة تغلو في حق المؤلف وهو يتحدث عن نفسه، كما تغلو في حق من يتبعونه ويهتدون بطريقته بوصفهم الناجين والمؤيدين والغالبين وسواهم هالك أو ضال، وكل ذلك تحت ستار حب وتعظيم النبي صلى الله عوسلم وآل بيته، وتقديمهم بصورة هم أول من نهى عنها وحذر منها، حيث يظهر النبي وآله على لسان "الرواس" بوصفهم مدار البداية والنهاية في هذا الكون الوسيع من يوم خلقه وحتى فنائه.
ففي الصفحة "146" مثلا من كتاب "البهموت" يقول "الرواس": "ومن ابتلي بالانحراف عنا فهو كالذي بين أنياب الأسد وإنه للقمة التلف مهما شقشق، أخذنا ذلك من حضرة الحضور وأن هذه الرتبة رتبتنا الخاصة اليوم لم تكمل لغيرنا".
ثم يتابع: "فبرقت لي بارقة ملأت فجاج الأكوان، ورأيت منها الذرات ودفاتر القضاء ولوائح الأعمال.. فنوديت من الجانب الغربي أن اذكر نعمة الله عليك وعلى قومك آل محمد صلى الله عليه وسلم".
أما في الصفحة "21" فيقول: "هذه حصتنا الغيبية من الحضرة المحمدية العلية، وقد أباح لي المدد الرباني بفضل ذلك الفيض المصطفوي كشف نقاب الغيوب، وسبر خفايا القلوب، لايشاكلنا في ذلك مشاكل، ولا ينازلنا في ميادين هذه العنايات منازل".
ويسبق ذلك بإشارة واضحة إلى "الوجه العلوي" الواجب اتباعه في مناصرة أهل البيت، فيقول: "والعون السرمدي الإحاطي قائم بنصرة آل محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام، لاسيما الوجه العلوي (نسبة إلى علي) منهم، فهو مؤيد مصون الجانب مبارك الجناب، الخزي لباغضيه والبركة لمحبيه والعناية لمواليه والمحق الفتاك لمعاديه".
وفي موضع أخر يصف "الرواس" نفسه ومن شاكلوه بـ"آيات الله"، وهو بلا شك لقب يذكرنا بأصحاب نظرية "ولاية الفقيه" الذين نصبوا أنفسهم نوابا عن الله وأوصياء على خلقه، وخلعوا على أنفسهم نفس اللقب "آية الله".. حيث يقول "الرواس": ثم برز لي مظهري وخفائي وانطوائي، وظهوري وشروق نوري، ومن ينوب عني ويأخذ مني.... ومن قصده الله بمحبتنا ومن بغيته الدنيا المحضة بوسيلتنا، ومن يشتري بنا –ونحن آيات الله- ثمنا قليلا، ومن يرد بزفرة نفسه العاجزة أقوالنا المتدلية من طريق النبوة إلينا من القدس".
ويرسم "الرواس" صورة واضحة لاتقبل التأويل عن طريقته وطريقة من يتبعونه، فيقول في الصفحة "26" من "البهموت": "جفرنا محمدي، ونمطه علوي، وتقريره فاطمي، وتحريره باقري وتسطيره جعفري، وإرمازه رفاعي، لم يقف على سره في الكون سوانا، ولم يكشف بردة طمسه إلانا".
ويمضي "الرواس" في شطحاته تلك، فيقول: "ومرة أمرني حبيبي عليه من الله أفضل الصلاة والسلام بقراءة القرآن الكريم فقرأته عليه من أوله إلى آخره بكمال التدبر والترتيل، فأفرغ فيّ -روحي لغبار قدمه الكريم الفداء- معاني الكتاب العزيز ببطونه وحدوده ومطلعاته فأدركت من ذلك الإفراغ الأقدس كل علم ديني وكل فقه عملي وكل سر حكمي وكل معنى حكمي وكل إشارة دقيقة وكل حقيقة رقيقة، وانطوت فيّ –بحمد الله- بواهر الأسرار الغيبية، وبواطن الأطوار النبوية... ثم بدا لي من خلال ستور تلك الحضرة كل شأن برز في عالم الملك وانطوى، ثم نشر في عالم الملكوت.. وعرفت طلاسم أسرار الفلفال الكياني وما فيها من اندماج الرمز المغلق، والشأن المقيد بالرسم والمطلق".
*شواهد لا تعد
ويعود "الرواس" لذكر "الجفر العلوي"، وما أكثر ما يذكره تصريحا أو تلميحا، فيقول في "البهموت": "والمعاني التي أوردنا في خبر اطلبوا العلم ولو في الصين مأخوذة من الصحيفة الرابعة من الجفر العلوي.... وقد زعم أناس العلم بالجفر وما فرقوا بين علم الحرف وعلم الجفر، وخلطوا وغلطوا ومزجوا التبن بالتبر، وراموا تقليد وجه الآل والأمر محال:
يقلد الصادق ذو فرية/ يكذب فيها نافثا بالعقد
عدا على الله ببهتانه/ قد يزأر الهر كالأسد".
ويدعم هذه الرؤية التي تؤكد على خطر مقام الأمام علي رضي الله عنه، والأسرار التي انطوى عليها، فيقول ناظما:
حضراتنا هن الخزائن فالتقط/ منها العقود فكل خير فيها
نظمت يد الزهراء جوهرها لنا/ وطوت لنا في النظم سر أبيها.
ويؤكد "الرواس" مرة أخرى على مرجعية "الجفر العلوي"، وتبحره به ومعرفته بطرق حسابه وأين وكيف وردت، حين يقول: "وفي الحساب الجفري العلوي الفاطمي الذي عليه أهل البيت، أعني القطب الوارث الفرد الأعظم منهم، وهو الذي يلي هذا العلم في كل عهد ولم يمنح إلا له، أو لمن أفيض منه إليه، فهذا الخبر الكريم جاء في أحد عشر مكانا من الجفر بحسابه، وحسابه حصره أئمة هذا الشأن في كلمتين من الخبر الشريف والكلمتان (اطلبوا، الصين)............... [ثم يمضي في حسابات للأحرف لا تختلف بشيء عن الحسابات المسطرة في كتب السحرة والمنجمين].
ولـ"الرواس" الذي قرأ "الجفر العلوي" وتعمق به، مذهب في تمجيد النفس، لايكاد تمر صفحة من مؤلفاته دون أن يعرج عليه، إذ يقول: "وقد رأيت بيوتا ترفع وشموسا تلمع وحلق أذكار ولطائف آثار تقوم لاسمي وتقعد، كلما أراد طيها حاسد نشرتها يد العناية الأزلية.
ويقول في مكان آخر: "وقد بشرت من حضرة القبول أن من آذاني أو آذى نائبي ووارث مناهجي... فستأخذه نار الله الموقدة من حيث لايشعر، وتلفحه بشديد إحراقها، فيذوب وكأنه ما كان، وسيبدي الله تعالى وتقدس من سر انتصاره لي ولمن اتبعني في عالم الإمكان العجائب، فيهدم لأجلنا صوامع، ويبني جوامع، ويبرز في فيفاء الكيان المعامع، ويفعل لنا فوق ما نريد، ونحن في مهد الأمن نيام"
وفي الصفحة "12" من "البهموت"، يصف "الرواس نفسه: "أنا غوث الوقت، وفرد العصر، وصاحب منصة النيابة الكبرى، ورب المحاضرة المؤيدة العظمى، وشيخ حضرات الدوائر، ويعسوب أئمة المحاضر، وطمطام موجة البحر النبوي، وشارقة طالعة المعنى العلوي، التفت علي المحافل الروحية، وفرشت لي سجاجيد التأييد في كل سدرة قلبية... أقامني في منصة النيابة الجمعة المحمدية: وليا فردا جامعا وارثا، وحفظ لي بسر قدسه باطني وظاهري، وقلبي ولساني، وأباح لي من أسرار غيبه العجائب... وأطلعني على رقائق شؤون فيها من لطائف الحقائق جزيل الفنون".
ورغم أن كتاب "البهموت" ليس كبيرا، إذا لايتجاوز 192 مع فهارسه وغلافه، فإن الشواهد الظاهرة على تغلغل معاني "الجفر العلوي" في نفس "الرواس" واستيلائها على عقله ووجدانه كثيرة للغاية، بحيث يعز الاستدلال ولو بربعها فقط في تقرير صحفي، ويتطلب اللجوء إلى تأليف رسالة كاملة عنها في سبيل استيفائها.
*مسنا الكرب
وبالاتتقال إلى كتاب "رفرف العناية" نجد نفس الروح والأسلوب في تناول كل ما يمت لأهل البيت، إذ يقول "الرواس": "ضاق برجل من إخواننا من السادات الحسينية ذرعه... فقلت له استعن برجال الغيب الذين هم من أهل البيت، ونظمت له بلسان الإلهام الأبيات التالية... فما كان إلا وبأيسر وقت ييسر الله أمره وكشف عسره وأكمل له المسرة... [ثم يسرد تلك الأبيات ومنها: يا رجال الغيب أين الهمم/ وأياديكم وأين الشيم.. حركوا العزم وثوروا غيرة/ فلنا منكم لعمري رحم... بدلوا العسر بيسر أبيض/ فلكم ينمى السخا والكرم.. مسنا الكرب فقوموا علّنا/ وأغيثونا وجودوا وأنعموا].
ويقول في نفس الصفحة (59) من الكتاب: "انكشفت لي العوالم وأنا في مرتبة القطبية المحبوبية المحاذية من طريق الخلعة للغوثية الجامعة، والفردية الكاملة، حتى لقد أطلعت على رنات الخواطر في الصدور"، وكأن "الرواس" يحامي الآية التي يصف بها الخالق نفسه: [يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور].
وتحت عنوان "مطلب في بيان الرموز الشريفة المطوية في الاسم الشريف محمد صلى الله عليه وسلم"، يمضي "الرواس" مستغرقا صفحات كثيرة لعرض تأويلاته بشأن كل حرف، وبشكل يشابه -إن لم يكن يطابق- ما يقع عليه الباحث فيما نُشر من مؤلفات أصحاب المذاهب الباطنية، بكل ما في تلك التأويلات من شطحات وطلاسم ورموز، تم تجميعها وتوليفها للوصول إلى نتائج مقررة في خيال المؤلف.
وفي الصفحة "103" من كتاب "الرفرف"، وتحت عنوان "بعض الأسرار الجفرية من الحضرة البتولية"، يخط "الرواس": "رأيت في الصفحة البتولية المورثة لأهل هذا المقام رموزا مفهوم مضمونها ينقسم إلى نشر وطي، فتدبر أنت سر النشر والطي، وخذ من أساليب رقائق حقائقه المشهودة، ودور هيكل الحبل من الآخر ورده إلى الأول.... وانتسب للسدة السرمدية بالسريرة السليمة، وهناك وليسبح قلم فكرك في بحر سر صحائفنا هذه، واستجمع الأسرار على بعضها في الدرجات التسع تسعد وتسر وتحمد، والسلام عليك؛ فافهم".
ثم يمضي كعادته في تأويلات وتهويمات لا خلاف على تقاطعها في مواضع -تعز على الإحصاء- مع تأويلات أهل الباطن، حيث يقول في الصفحة "114": "سمعت في ذلك المشهد الأسعد سيدنا الكرار الأعظم –عليه سلام الله ورضوانه- يقول لرجل أمامه، ويشير إلي: هذا رجل من رجال بيتي، فحمدت الله تعالى... ولم تزل بركة الحال المرتضوي العلوي تنفح علي مسك المدد إلى آننا هذا، وإلى يوم الدين إن شاء الله تعالى، فإني والحمد لله لم أزل آكل من مائدة المدد المحمدي، بيد سيدي ومولاي الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وآكل من مائدة الجناب العلوي بيد سيدي الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه".
*إلا من شطح
وهكذا، ومن سياق ما عرضنا باختصار.. يتضح إلى حد ما، ما الذي جمع "دفضع" بالنظام، ويتضح من باب آخر لماذا كان النظام وما زال أقل تشددا تجاه كثير من الطرق الصوفية، والكثير من مريديها، إلا أولئك الذي تبحروا في العلم وتعمقوا في الحقائق (بعكس ما يؤمرون من شيوخهم)، فهؤلاء لا تساهل معهم، ولا تسامح أبدا حين يشطحون عن شطحات أرباب الطرق.
وفي نهاية هذا الجزء من تقريرنا، يجدر أن نذكر أن لـلقطب الصوفي "الرواس" أشعارا كثيرة جدا، لا تذهب بعيدا عن معاني نثره المبثوث في ثنايا مؤلفاته، وقد انتقينا منها هذه الأبيات لنختم بها:
قرأنا بـ"جفر الغيب" حكما مؤيدا/ رأينا به معنى يلوح لمبصر
شكلناه مرموزا نقطناه معجما/ وقلنا لعين الحائرين ألا انظري
كشفنا له السر المصان بنظمه/ على نص "بهموت الغيوب" المقرر.
إيثار عبدالحق-زمان الوصل-خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية