لم تعد سورية كما كانت ولن تعود، وبكل ما فيها من نظام وجغرافية وبشر، وتفرق السوريون في أصقاع الأرض كأي شعب أصابته نكبة الموت والتشرد، وبعد سنوات الدم التي طالت منهم الروح والمكان ولعنة الأخ ابن البلد وجد الكثيرون منهم خيارات العيش الجديدة وتأقلموا معها لاجئين ومواطنين جددا، صالحين وشذاذ آفاق، مبدعين ومعتاشين على المعونات، تنوعت ألوانهم وفرصهم وكذلك مصائرهم.
من بقي في داخل الوطن أيضا يعيش مصيره إما قاتلاً أو مقتولاً، مغلوبا على أمره أم موافقاً وراضياً، بدون عائلته الكبيرة أو معها، متسولاً أو يحيا على ما يرسله المغتربون واللاجئون الجدد من أقاربه وأبنائه، موظفاً أو عاملاً ليأكل بفرجه أو كدّ يده.
دائرة النظام من الشبيحة وعائلات الموالين ارتضوا أن يكونوا مواطنين وفق هوى أسيادهم الجدد من الإيرانيين والروس وزعماء الميليشيات الذين باتوا من أهل البلد وأعيانها، وأما القلة منهم المغلوبة على أمرها بسبب وهم الذعر من الطائفة الأم التي تذبح وتقتل باسم الله فقد وجدت ذعرها الجديد بمن يقتل باسم غير الله.
البقية الحاكمة والمستفيدة من أي سيد يحكم لا فرق لديها إن ساد البلاد الشيطان أو من في حكمه، ولا مشكلة طالما أن المصالح الشخصية والمالية بخير، وهي ترى في البلد سوقاً لتصريف الأموال والبضائع والبذاءات، وأما الشعارات الكبرى عن الوطن والأخلاق والشرف فهي ليست سوى من زمن مضى لا تسمن ولا تغني من جوع.
أهالي المناطق الثائرة الذي يتم تهجيرهم على دفعات هم البقية التي تئن اليوم وحدها في الطريق إلى منافيها في الشمال والجنوب وبعض الوسط، وهي إذ تحمل آمالها تجر معها الكثير من الخيبات، والشعور الكسير بالخذلان من أخوة الهتاف الواحد والمصير الذي كانوا يعتقدونه واحداً، ومنهم من يتحسس ظهره الذي ترك مكشوفاً للغدر...وأما المصير النهائي فإما موت في معركة أخرى أو انتظار نصر ما زالوا على يقينه وأمله.
هذه صورة الوطن المخذول بعد سنوات الصراع الدموي والتدخلات على اختلافها، وهي لوحة فوضوية لم يكن يتخيل أحد أن تكون عليه، وأما بشرها فيتمنون أن يكون ما حصل مجرد كابوس أو حلم مزعج سيستيقظون منه بخدوش نفسية تشفى عاجلاً.
سورية التي لن تعود كما كانت وطناً للجميع على الأقل في صمتهم على عيوبهم وعيوبها، وتتقاسمها اليوم دول النفوذ تحت مسميات كثيرة، وشعارات براقة إنسانية، وأبناؤها قلوب شتى ومصائر متعددة، تاريخ متنوع وحاضر دموي، ومستقبل أقل ما يوصف بالمجهول، ودولة أقل ما يصنفها العالم بالفاشلة.
كي لا تتوه البوصلة أكثر، وألا تغرق السفينة بكل ما فيها، وألا يعود هناك من متسع للعوم باتجاه شاطئ النجاة البعيد...على السوريين جميعاً أن يدركوا أن بعض الريح يبدو صالحاً للعودة ولو بما يشبه الوطن.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية