صورة عضو مجلس الشعب السوري محمد قبنض وهو يوزع الماء على الخارجين من الغوطة مقابل الهتاف لحياة بشار الأسد، لا تمثل حالة منفردة أو فريدة في المشهد السوري، ولا تمثل قبنض وحده أو باقي أعضاء مجلس الشعب، بل هي جزء من كل، جزء من تاريخ يمتد لخمسين سنة تقريبا من الذل مقابل الحصول على وظيفة، والطاعة العمياء المغمسة بالقهر مقابل رغيف الخبز.
وبعيدا عن العواطف وعن كل ما أثاره الفيديو المسرب من قهر(على عكس سابقه لذات الشخص والذي أثار عاصفة من الضحك)، فإن الفيديو الأخير، وهو مسرب عمدا بلا شك، يهدف إلى اصطياد أكثر من عصفور بزلة واحدة:
1- هي رسالة من النظام لكل السوريين مؤيدين ومعارضين تقول بأن من أراد الدخول في حظيرتنا، عليه أن يكون شبيها بهذا الشخص من حيث الطاعة العمياء والسذاجة والأمية الفكرية، ومن أراد أن يحظى برضانا ونعمنا، عليه أن يتخذ من هذا القبنض مثالا ويحذو حذوه.
فالعضو المذكور، يمثل تلك العينة من أبناء السلطة الذين يحكمون البلد ويقودونه، وهم الذين أوصلوا البلاد إلى هذا الدمار والخراب، وكل ما نراه من ويل وموت، كان بسبب اعتماد النظام أساسا على مثل هذه العينات لتكون أعضاء في مجالس لهش الذباب والربح فوق الشعب، ومن هنا فإن النظام لن يقبل أصحاب العقول بين صفوفه على الإطلاق ولا أصحاب الفكر يرضون أن ينضموا لقطيع يقوده قاتل ويطالبهم بتمجيد اسمه وتلميع القتل وتسويق ثقافة تظهّر القتل على أنه عمل محترم وواجب مقدس.
2- يريد النظام التأكيد على أن أنصاره ومؤيديه ليسوا من الطائفة العلوية وحدها وليسوا من الأقليات بل هم جموع الشعب السوري بكل انتماءاته الطائفية والـ "قبنض" خير مثال على ذلك، وأن بين صفوف السنة من يهتف للنظام ويؤيده بقوة
هذا الفيديو المسرب يساهم في تكريس فكرة أن النظام غير طائفي وأنه ينطلق في قتله للشعب السوري من منطلقات وطنية وأنه يقضي على الإرهاب فعلا، وهذه عينة من السياسيين السنة التي تدعوا الشعب للالتفاف حول القيادة (الوطنية) ودعمها والهتاف ببقائها ودوامها، وبالتالي ينفي النظام بالاعتماد على مثل هذه العينات، كل التهم التي تؤكد طائفيته وانحيازه لأبناء عشيرته من قلب الطائفة ذاتها وينفي أنه يستهدف الأكثرية السنية بالقتل والدمار والاضطهاد والتهجير، ويؤكد على أن من أصابهم الموت والدمار والتهجير هم من الفئات التي تستحق ذلك، فمن لم يسر على خطى الـ"القبنض" سيلاقي مصير أهل الغوطة وستكون شربة الماء حلما بعيد المنال بالنسبة لهم.
3- للفيديو المسرب هدف دنيء آخر، فهو يقول للسوريين المؤيدين للثورة إن المجتمع الدولي وعلى الأخص الدول العربية الداعمة قد تخلت عنكم وعن دعمكم، ولن تجدوا ما تأكلونه إلا في أحضان النظام الذي ثرتم عليه، في أحضان قاتل أولادكم وأهليكم.
لا شك أن أهل الغوطة شعروا بالتخلي ومن جميع الأطراف، وما تسولهم للماء إلا ردة فعل المقهور على من خذله في لحظة الحاجة وعلى من تخلى عنهم حين مدوا أيديهم طالبين العون، هذه الصورة تقدم خدمات جليلة للنظام على هذا الصعيد، فكان هتافهم للأسد ردة فعل على الانكسار والقهر والخذلان من شعب عربي كان المفترض به أن يهب لنجدة أهله في الغوطة وفي كل أنحاء سورية.
4- النظام انتصر وانتهت الثورة، هذا ما يريد النظام تأكيده عبر تسريبه للفيديو المذكور، بهدف إشاعة حالة من الإحباط واليأس والانكسار لدى جمهور الثورة.
فالاحتفالات التي شهدتها دمشق فور دخول الجيش إلى مدينة "حرستا" لم تكن عفوية، فلا شيء في سوريا يمكن أن يحدث عفويا، كله بإذن وتخطيط مسبقين من النظام وأجهزته الأمنية، تلك الاحتفالات والمبالغة في الرقص والفرح، رسالة إلى الجميع بوجوب الاستكانة للخنوع والعودة إلى حضن النظام، وأن الحكم باق إلى الأبد في أسرة آل الأسد، وتلك رسالة تطمين لمؤيديه ومناصريه وكل المجرمين المنضوين تحت لواء جيشه وميليشياته بأن القتل مسموح ومفتوح على مداه، فلا خوف ولا خشية من محاسبة أو محاكمات دولية وما أشبه.
هذه بعض من الرسائل التي أراد النظام وعصابته أن يوصلها في كل الاتجاهات عبر تسريبه لشريط فيديو لم يكن في الحقيقة عفويا بدوره، بل إن الكثير من خطواته كانت مدروسة مسبقا وسيناريوهاتها معدة في أحد الفروع الأمنية.
ولكن، كيف وصلتنا هذه الرسائل؟ كيف رأيناها وكيف قرأنا بواطنها؟
في الحقيقة أن الفيديو المذكور ربما لم يحقق أهداف النظام، ولربما كانت نتائجه على عكس ما يشتهي النظام ويتمناه، فالصورة تؤكد على أن الثورة على هذا النظام كانت فرض عين، وأن التخلص من هذه الزمرة الحاكمة، واجب على الإنسانية وليس على السوريين وحدهم، وأن قبنض ليس إلا جزءا يمثل الكل الذي يرى في الشعب مجرد قطيع لا يمكن السيطرة عليه إلا بالتجويع ومحاولات التركيع والإذلال، وأن القبنض يمثل صورة لعصابة حكمت البلاد على مدى قرابة الخمسين عاما بذات العقلية وبذات الفهم لطبيعة الحكم وأساليبه.
يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه (أصول النظام السياسي) أن أعضاء البرلمان في "بولينيزيا" وغيرها من الدول ذات الحكومات الفاشلة ليسوا إلا زعامات مهمتها الحصول على أكبر قدر ممكن من لحم الخنزير لتوزيعه على أبناء العشيرة أو القبيلة والمحازبين لها، والقبنض ليس إلا "بولينيزي" صغير في ظل حكم "بولينيزي" أكبر وأعم، مهمته توزيع بعض لقيمات لحم الخنزير على خنازير ترضى بالذل وتوزعه على الشعب.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية