من الحكمة الإلهية أن يكون شهر آذار مارس ليومين مختلفين هما ذكرى ثورة السوريين على الطاغية وعيد الأم، يومان لهما نشوة الفرح والتغيير، وآذار شهر انقلاب الحياة من يباسها وموتها إلى خضرتها.
قد يبدو كلاماً مفرطاً في التفاؤل، وقد يجده البعض أقرب إلى الشعر من الواقع، وآخرون قد يرونه من باب مداراة النفس وعزائها بعد سنوات عجاف دامية مرت على البلاد والعباد، ولكنها قلب الحقيقة التي لا يراها إلا الذين عاشوا عقود الذل والانكسار مع آل الأسد، وفي دولة الأقبية المعتمة والأفواه المقفلة.
لقد قدمت الثورة السورية مع كل هناتها وأخطائها دروساً مهمة في تحمل أعباء قرار التغيير، ودفع أبناؤها حياتهم ثمناً لصرخة (حرية)، ولم يتراجعوا حتى أولئك الذين فروا خارج البلاد نتيجة الملاحقة والحصار أبدعوا من بعيد عناوين ثورة جديدة قادمة تتوالد يوماً بعد آخر.
يروج كثيرون اليوم من أصدقاء وأعداء للثورة فكرة انتصار الطاغية ونظامه خصوصاً بعد تداعي الجبهات التي كانت تسيطر عليها المعارضة، وأن الثورة خسرت أرضها وحاضنتها الشعبية التي أنهكتها الضربات والجوع، وأن النظام يعيد السيطرة على كل ما فقده خلال سنوات الثورة..وأما الحقيقة فيدركها الجميع حتى الأسد وأعوانه بأنهم لم يعودوا يحكمون أي شبر حتى الذي يقفون عليه.
لقد استطاعت الثورة جلب انتباه العالم إلى بقعة ساكنة كانت محكومة بقبضة من حديد القمع، وبالرغم من تخلي العالم عنها، إلا أنها جلبته مرغماً إليها، وهذا استجلب معه قوى الظلام التي تساند الطغاة، واليوم تخوض هذه القوى حربها الشعواء على الشعب السوري بكل ما أوتيت من قوة وسلاح، وهنا أيضا قد يرى البعض أن هذا ما عجل في تقدم الأسد وعدم انهياره.
وهذا صحيح لكنه لم يهزم الثورة التي باتت على شفاه طفلة خرجت منذ أيام من غوطة دمشق لتقول: لا أريد الأسد.
لكل ثورة كبوات وهفوات، ولكل ثورة وقت نكوص يحسب عليها، لكنه لا يعني أبداً هزيمتها، فالسنوات التي مرت عززت ضرورتها، وإن كان السوريون قد ثاروا لأسباب عدة على نظام القمع، فقد أضافت السنوات التي مرت ألف سبب جديد لاستمرار الثورة وعدم القبول بحكم الأقلية القمعية.
نعم إنها ثورة يتيمة ومخذولة، وثورة أيتام جدد، ولكنها بالرغم من كل ما حصل أصبحت نموذج حياة للسوريين في داخل البلد وخارجها، وهي من دفعت ثمن نكوص كل ثورات شعوب الربيع العربي الذين أعيدوا إلى حضن الأنظمة القمعية تحت مسميات جديدة وحكومات وهمية، واستمرارها هو من سيعيد الأمل لبقية المخذولين في هذا الشرق العربي المخذول.
أثبت السوريون من أبناء الثورة أنهم قادرون على النجاح عندما تتاح لهم الحرية وهواء التغيير، وأنهم أينما حلوا قادرون على الصمود حتى أولئك المخذولين فيما بقي من مناطق محررة يبدعون في التغلب على ظروف الحصار والموت.
إلى أمي في يوم الأم... لقد انتصرت الثورة لأننا هزمنا فينا صمت عقود الذل ولن تستطيع أية قوة إعادتنا إلى حظيرة القمع والصمت.
*ناصر علي - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية