من تبقى من السوريين على قيد الحياة يعيشون اليوم ذكرى ثورتهم على نظام القمع والاستبداد، تلك الثورة التي تأبطت الدم تحت أزيز رصاص عنف النظام منذ أيامها الأولى، فقد هزّت كلمة "حرية" التي صرخ بها الكبار والصغار عرش الدكتاتور الذي لم يحاول إيجاد حل لوقف الطوفان، ولجأ فورا للرصاص فوجّهه إلى الصدور التوّاقة للكرامة.
ثورة يبدو أن باكتمال عامها السابع تحمل تغييرا جوهريا للخارطة السياسية والجغرافية لمنطقة الشرق الأوسط، وقد يتوسع تأثيرها ليقلب موازين السياسية العالمية، بعدما كشفت كذب المنظومة الإنسانية والأخلاقية في العالم.
ليس جديدا على العالم سماع صرخات الحرية من أفواه المقهورين، لكن الجديد الذي حملته الثورة السورية والذي أسهم في فضح عورات المؤسسات الكونية والإجرام المتخفّي لدى الدول العظمى، هو الدم الذي سمحت لمجرم معتوه بسفحه في سورية، ووقفت تتفرج عليه، غير آبهة بشعاراتها في الأخلاق والإنسانية.
كثيرة هي اللجان التي شكلتها الأمم المتحدة للوقوف على ما يجري في سورية، وحملت نتائج عملها كثيرا من الإثباتات على مجازر النظام بالسلاح التقليدي والسلاح المحرم دوليا، لكن المنظمة الدولية المحكومة بفيتو روسيا الموجّه من بقية الدول الفاعلة جعل منها حبرا على ورق.
ولم تكن الجرائم المتكررة باستخدام بشار الأسد للسلاح الكيماوي على المدنيين، وتدميره المشافي والمدارس والأفران ومحاصرة مناطق عدة ومنع الطعام والدواء عن سكانها كافية لتحريك الضمير العالمي، الذي لم يجد في تدمير المدن وتهجير ثلث سكان سورية وعمليات التغيير الديموغرافي الطائفي سببا كافيا لفعل شيء يوقف سفح شرف الإنسانية.
اقتضى صمت الدول الكبرى على جرائم بشار وروسيا والتنظيمات الجهادية والطائفية تضليل شعوبها عن حقيقة ما يجري في سورية، فأوعزت لوكالات أنباء وفضائيات كبيرة بنقل الصورة التي تريدها، ورغم أنها تدرك استحالة وقف التدفق الإعلامي للطرف الآخر، إلا أن اختلاط الصور يجعل من الصعب على غير المتخصصين التمييز بين صورة الحقيقة وتلك المشوّهة، ويجعل احتمال المطالبة بتحرك ما لوقف شلال الدم ضعيفا.
ففي فرنسا هناك القنوات الرسمية ومنها "فرانس 24" تقوم بهذه المهمة، وفي بريطانيا تتولى هيئة الإذاعة البريطانية بمعرفاتها الإعلامية المرئية والمسموعة والإلكترونية تشويه الصورة، وكذلك الأمر في أمريكا وكثير من الدول الأوروبية، وتسهم الفضائيات العربية متباينة المواقف (حسب الدول التي تتبع لها) بزيادة تشويه الحقائق.
لم تكتف تلك الدول بغض الطرف عن مجازر النظام وعموم جرائمه، بل دعمت بشكل غير مباشر (أو مباشر) فصائل إرهابية زادت من تدفق الدم لسوري، وهي هنا تفتح بابا لتدخل منه إلى مصالحها في سورية مع أنها لم تكن مضطرة لذلك، وهي التي اعتادت اقتحام أي جغرافية تحتاجها بطرق متعددة، متجاهلة القوانين الدولية والإنسانية، إنه الفلتان العالمي.
ولتكمل رسم المشهد كما تريد، أوجدت تلك الدول معارضة طيّعة تفعل ما تؤمر به، تتباين مطالب مكوناتها بشكل صارخ، بدءا من القبول ببشار الأسد رغم كل ما فعل وصولا للمحافظين على المطالب الأولى للثورة السورية في الحرية والكرامة والعدالة.
شيء وحيد حاولت المنظومة الدولية مساعدة الشعب السوري فيه هو الدعم الإغاثي، وهو على شحّه، عاد لخزينة الدول المانحة عبر الرواتب الكبيرة التي قبضها موظفوها في المنظمات التي تولت إدارة التمويل، حيث وصلت المصاريف التشغيلية لكثير منها إلى 60 % من المبالغ الكلية.
الثورة السورية مفتاح للتغيير في العالم وهناك مؤشرات على أن شيئا ما مهما بدت تظهر ملامحه في المنظومة السياسية الدولية، فقد تكون بداية حرب باردة جديدة على أعتاب الظهور إلى العلن، وربما يتم وأدها في المهد عبر إفشال مخطط بوتين العسكري المتمادي في سورية وضربه اقتصاديا ورياضيا في روسيا، ولا يخرج عن إطار التأثير الكوني للثورة السورية ارتفاع الأصوات المطالبة بتعديل أنظمة وقوانين هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولن تدخل الثورة عامها التاسع إلا وقد تغيّر الشيء الكثير في العالم، والأهم، ربما انتصرت.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية