أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الثورة السورية والمآلات الطائفية.. فؤاد حميرة*

أرشيف

أحدثت ثورات الربيع العربي تمزقات واضحة في بنية الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة في المنطقة ونجحت في إزاحة أربعة من أعتى الأنظمة الاستبدادية، والدلائل تبشر بالمزيد من الانهيارات، ولقد اهتزت عروش وسلطات روّجت إلى أبديتها حتى بات مجرد تخيل إزاحتها ضربا من المستحيل.

غير أن الانزياحات التي أصابت هذا الربيع، ونتائجه الكارثية على الدول التي حدثت فيها حركات شعبية، جعلت منه مصدر خوف وقلق لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية، حتى إن بعض تلك الدول أضحت مضربا للمثل في التخريب والموت والدمار، فكثيرا ما نسمع خطابات لسياسيين عرب تقول:"هل تريدون لبلدنا أن يصبح مثل سوريا؟"، وبات هذا التساؤل اتهاما بل وتهديدا يشهره المحللون والسياسيون في وجه شعوبهم عند أدنى شعور بالتحرك الشعبي أو التمرد، وباتت سوريا الكرباج الذي يتم تهديد الشعوب به، وكأن الثورة السورية أصبحت حكاية شعبية لتعليم الأطفال قواعد الأدب والأخلاق أو المبادرة وقوة الشخصية على نمط حكايات سندريلا وليلى والذئب، دون أن يتساءل أحد عن الأسباب التي جعلت من الربيع العربي انتكاسة في سوريا وغيرها من بلدان الربيع (ليبيا، اليمن) وإن كان ما يهمنا هنا هو الموضوع السوري لتشعبه وللخصوصية السورية من حيث التنوع الطائفي والعرقي.

يميز الدكتور "فواز جرجس" في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) بين الثورة وبين اللحظة الثورية، فالثورة (سرعان ما تقلب البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع في حدود زمنية قصيرة نسبيا)، فيما تكون اللحظة الثورية (عرضة للإجهاض والاختطاف أو التقولب مؤسساتيا أو تغدوعرضة للنكسات). 

وأعتقد شخصيا أن الثورة السورية وعبر لحظتها الثورية المشار إليها تعرضت لكل ذلك، فلقد تم اختطافها وجرى السعي لإجهاضها منذ لحظاتها الأولى، وبغض النظر عن الدور الكبير والمؤثر الذي لعبته الدول الاقليمية في تحويل وجهة الثورة عن مطالبها الأولى في العدالة والحرية والمساواة، فإن الأسباب الرئيسية تكمن (حسب وجهة النظر الشخصية) في طبيعة النظام السياسي المستبد الذي انقلبت عليه الجماهير بعد أن شعرت بضيق الثوب الذي لم يتسع ولم تتغير مقاساته عبر خمسين عاما ورغم التغييرات الهائلة التي شهدها العالم على الصعد كافة.

مع الربيع العربي، انتقلت الدراسات والأبحاث السياسية من التركيز على طبيعة الأنظمة السياسية وتحركاتها وأساليبها إلى الحديث عن الشعوب، عن العمال والفلاحين والفقراء وتحركاتهم وتوجهاتهم، ومن هنا فإن دراسة طبيعة الشعب السوري تكتسب أهمية إذا أردنا حقيقة معرفة الأسباب الذاتية التي دفعت بالثورة إلى الانحراف وأن تكون فرصة سانحة للتقولب والإخضاع لإرادات الأقوياء والممولين على الرغم من أن الثورة السورية شهدت في مطالعها مشاركة واسعة من أبناء الريف المحرومين والفقراء من سكان أحزمة الجوع حول المدن وأطرافها وكانت الثورة فرصة (قد لا يتم تعويضها) ليتعرف الشعب السوري على بعضه عن قرب ويكتشف مدى التفريق الذي لعبته الأنظمة.

منذ خمسين عاما سيطر حزب البعث على السلطة، وهذه السيطرة لم تأت عبر الحزب وانتشار أفكاره واقتناع الناس بها، وإنما جاء عن طريق الجناح العسكري في الحزب والذي يتكون من مجموعة ضباط غالبيتهم من أبناء الريف ومن أبناء الأقليات الطائفية والعرقية، وإن لانضمام أبناء الريف والأقليات للجيش أسباب هامة على رأسها الأسباب الاقتصادية وعلى رأي الباحث "سلامة كيلة" (إذا أردنا أن نفهم طبيعة أي سلطة يجب أن نفهم الفئات الاجتماعية التي أصبحت هي ذاتها سلطة).

من هنا فإن السلطة اصبحت ريفية في معظمها ويغلب عليها الطابع الأقلوي، وتذكر دراسة لجامعة "تكساس" أنه عشية الثورة السورية كانت ما نسبته 80 في المائة من الوظائف الحكومية لأبناء الطائفة العلوية، وهذه الإحصائية أكدتها إحصائيات أخرى ودراسات معمقة، وليست الوحيدة التي تورد هذا الرقم الذي يحمل في طياته الكثير من المعاني الاقتصادية، أرتدت عند الطرف الآخر (المعارضة) طابعا طائفيا بوعي أودون وعي، وهنا تنطبق مقولة لينين الشهيرة (إن السياسة هي الحديث المكثف عن الاقتصاد) فكل ما يجري له أسبابه وجذوره الاقتصادية ولم يكن الدين إلا ستارا.

يضاف إلى ذلك تمركز القيادات الفاعلة في الجيش وأجهزة الأمن بأيدي أبناء الطائفة العلوية أيضا، وهذا لا يعني أن النظام طائفي فلو كان كذلك فعلا لعمل على رفع مستوى العلويين وتحسين ظروف معيشتهم، لكنه سلمهم الوظائف الدنيا من الدولة، تاركا لفئة قليلة فقط، السيطرة على مقدرات البلاد والطائفة ذاتها، فبات أبناء الطائفة من كبار المستغلين هم أنفسهم مضطهدي وجلادي أبناء طائفتهم سواء بسواء مع باقي الطوائف والإثنيات.
لكن الضربة القاضية التي وجهها النظام للمجتمع السوري كانت في قتل العمل السياسي عبر إجهاض الحركات والأحزاب السياسية وقتل الأحزاب القائمة وهي التي تمتعت سابقا بتاريخ سياسي عريق وكانت لها قاعدتها الشعبية، إلى أن حفر النظام قبورها بشكل جامعي وكتب على شاهدته (الجبهة الوطنية التقدمية).

بدا النظام في هذا الشكل، نظاما طائفيا رغم أنه كما أوضحنا، يستثمر الطائفية فقط ويزج بأبناء الطائفة إلى الفقر والعوز انتهاء إلى رميهم في وجه المدفع ليكونوا اعداء لمعظم أبناء البلاد دفاعا عن طغمة حاكمة لا يهمها إلا البقاء في السلطة على حساب كل شيء، هذه الصورة الطائفية، أصر النظام حقيقة على الظهور فيها كنوع من الابتزاز للطرف الآخر (المعارضة) فكان له ما اراد، ولأن هذه المعارضة هي اساسا من طبيعة النظام ذاته، ونظرا لغياب العمل السياسي، لم يكن أمام المعارضة من بد غير التوجه نحو العمل الديني، الأمر الذي تلقفته بعض الدول الإقليمية ودعمته من باب الرد على نظام طائفي، بمعارضة طائفية أي محاربة النظام بسلاحه.

الاستفزاز الطائفي الذي مارسه النظام طيلة عقود خمس لا يتوقف عند الجانبين العسكري والوظيفي، بل تعداه إلى المجالات الثقافية والفنية، فعمل (عامدا متعمدا) على إقصاء معظم الفنانين السنة لحساب الفنانين من أبناء طائفته، ففي المؤسسة العامة للسينما على سبيل المثال يجد أكثر من 40 مخرجا، ليس في تاريخ الكثيرين منهم فيلم واحد، اللهم إلا أولئك الذين أظهروا ولاء منقطع النظير للطائفة ولحاكمها، فللمخرج "عبد اللطيف عبد الحميد" أكثر من 12 فيلما منذ بدء عمله في المؤسسة، وأنا أسوقه هنا كمثال لا للتنديد بأعماله أو مناقشتها وإنما للتأكيد على الطابع الطائفي الذي وصل حتى المؤسسات الثقافية والفنية.

كما أن المواطن لم يعد يرى في التلفزة الحكومية التابعة للنظام غير مطربين لأبناء الطائفة (على الديك وحسين الديك وثائر العلي وأذينة العلي)، فيما تم إقصاء مطربين آخرين كانوا مؤسسين للفن في سوريا منهم على سبيل المثال "موفق بهجت" و"فهد بلان" (الذي تم اختصار تاريخه الفني بأغنية يوما على يوم)، وحتى الأغاني التراثية تم إغفالها لحساب نشر التراث الساحلي، ونحن هنا لا ننكر حق أبناء الساحل في نشر تراثهم وفنونهم، ولكن لا بد من الأخذ بعين الاعتبار المساحة التي تأخذها من الإعلام مع وجود إثنيات وطوائف أخرى لها ذات الأحقية.

لقد مرت فترة على البلد كان فيها للعلويين الذي يشكلون أقل من 13 بالمائة من مجموع السكان، وزارات الإعلام والدفاع والثقافة ومعاون وزير الثقافة ومدير المؤسسة العامة للسينما (الذي أصبح وزيرا للثقافة حاليا).

والأكثر من ذلك، أصر النظام على التدخل حتى في الشون الدينية السنية، فكانت المناصب العليا فيها من نصيب الأقلية الكردية، وأرى أن في هذا استفزازا ما بعده استفزاز للمكون السني العربي، فالمفتي كان من الأكراد ووزير الاوقاف كذلك، والمنشدون وأئمة المساجد، ولم يترك للسنة العرب غير الصلاة والتشهد.

كل ذلك كان لا بد وأن تكون له انعكاساته عند الطرف الآخر، فالنظام قام بكل ما يستطيع للتفريق بين مكونات المجتمع السوري أفقيا وعموديا، طائفيا وإثنيا، لضمان عدم وحدة الصف ضد استبداده، وضمان عدم وجود مواطنين أحرار يجمعهم الفقر والحلم بالعدالة والمساواة.
وعلى ذلك يقول "فواز جرجس" في كتابه المشار إليه أعلاه "يجب ألا يستغرب المرء هياجا بين الأعراق والديانات وحروبا أهلية لأن الطغاة يعتمدون سياسة فرق تسد وإقصاء قطاعات واسعة من الجماهير".
-يتبع-

*من كتاب "زمان الوصل"
(166)    هل أعجبتك المقالة (187)

سوري

2018-03-09

الأستاذ فؤاد المحترم: السؤال المهم برأيي هو: ما يحصل اليوم ستكون له امتداداته وتأثيراته المستقبلية، تصرفات اليوم هي بذور للمستقبل، بناء عليه: أي مستقبل ينتظر مؤيدي بشار الأسد؟ موازين القوى الحالية التي هي لصالح النظام لن تستمر على حالها، حتى لو بعد 20 او 30 سنة؟ كم قتل النظام من السنة ؟ نصف مليون؟ مليون؟ السنة خلال عام واحد فقط أنجبوا أطفالاً يعادل عددهم ما قتل منهم خلال 7 سنوات... محملين بإرث وثأر لن يمحوه الزمان لأنه ببساطة في القرن 21 لم يعد ممكنا للنظام أن يتلاعب بذاكرة الاجيال كل الجرائم موثقة وبالفيديو....هل ثمة بقايا وعي وإدراك وعقل لمؤيدي بشار يسمح لهم برؤية الفناء الذي ينتظرهم هم وأولادهم وأحفادهم؟؟؟؟.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي