أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

تحدث بأدب سيدي الرئيس.. درس في الحرية والمواطنة*

أرشيف

"بإمكانك أن تبني عرشاً من الحراب، لكن ليس بإمكانك المكوث عليه طويلاً" ـ حكمة من الصّين. 

ذات يوم من عام 2010، في دمشق، عادت ابنتي (8 سنوات) من مدرستها وبدت علامات تعرضها للتعنيف، والسبب أن المدرِّسة كانت تتحدث عن "القائد الخالد"، ولأن تعبير "الخالد" كان جديداً على الطفلة، فقد استفسرت عن المعنى، وكانت الإجابة: إنه الرئيس حافظ الأسد، الشخص الخالد الذي لا يموت، فسألت الطفلة، لكن كلّ البشر يموتون كما أخبرني والدي عندما مات جدّي، ويبدو أن محاولتها التعبير عن فهمها انتهت إلى تأنيب تبعه فرك أذنين، إلى أن جاءت باكية إلى المنزل دون يصلها الجواب.

هكذا تبدأ عملية القمع الممنهج التي تمارسها الدّولة بأجهزتها على الأطفال، فخلال المرحلة الابتدائية يتم حقنهم بشعارات لا يفهمونها، ويطلق عليهم مسمّى "طلائع البعث"، ثم في المرحلتين الإعدادية والثانوية ينتقلون إلى مرحلة "شبيبة الثورة"، وخلال 12 عاماً يتم إخصاء الجيل، ونزع قدرته على التفكير، واستلاب حريّته حتى لا يعود قادراً على فهم ما يجري حوله إلا من خلال الشعارات العريضة، وعبارات تمجيد القائد والحزب، وغالباً ما يتلخص مفهوم الوطن في عبارة "بالروح بالدّم".

عام 2011، كان النظام السوري في مواجهة مع احتقان دام لعقود، فقمع الحريّات ومنع الرأي الآخر، وتصنيع أحزاب معلّبة تناسب مقاس نظام الحكم انتهت كلّها إلى موقف صعب، لقد انهار الجدار دفعة واحدة، والمشكلة الكبرى كانت في المواجهة بين جيل لم يمارس يوماً حريّة التعبير، وأدوات السلطة التي لم تعتد التعامل مع حراك سلمي مدنيّ، فكيف يمكن زجّ عناصر "الفرقة الرابعة – حرس جمهوري" وهم من جنود النخبة المدرّبة على القتل أمام جموعٍ غاضبة تحتاج من يستمع لمطالبها، لا لمن يضغط على زناد الحرب التي أكلت البلاد.

حرية التعبير جزء مهمّ في مسألة المواطنة أضف إلى الحق في التعلم، وتكافؤ الفرص، والمواطنة في ذات الوقت هي الواجب الذي يقع على عاتق الفرد إسهاماً في بناء الدّولة التي تحميه وتمنحه هويتها.

في سوريا، جرى قتل وتغييب الآلاف قسراً لأنهم كتبوا عن الحرية أو رسموا صورا تعبر عنها، كما حصل لرسام الكاريكاتور أكرم رسلان الذي اعتقلته سلطات الأسد لتعاقبه على ريشته الحرة، وبات اسمه في سجلات المغيّبين قسراً دون معلومات إن كان مازال على قيد الحياة، وكذلك رسام الكاريكاتور علي فرزات الذي تم اختطافه وتكسير أصابعه لتجرؤه على تجاوز المسافة المحرّمة التي رسمتها السلطة.

ليس مطلوباً بالمعنى التعاقدي أن يدفع مواطن واحد حياته من أجل رأيه، أو لأنه يرى الوطن من زاوية مختلفة، بل قد يدفع آلاف العسكر حياتهم للدفاع عن هذا الشخص، وهنا يبدو الاختلاف في تفسير أحقية الدفاع عن الوطن، ومن هنا يبدأ التمييز بين المفهومين العاطفي والشرعي للوطن والمواطنة.

كلّ شعارات التمجيد، والنشرات التي يتم كتابتها في غرف المخابرات، وعمليات الاعتقال والتصفية وتسييس الإعلام واستخدامه للسيطرة على الناس تقود إلى الانفجار الكبير، وتلك الأدوات هي سكاكين تصنع منها الديكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية عروشها، لكنها لا تستطيع الجلوس عليها طويلا. 

مناسبة الكلام هي تلمّس مساحة الحرية التي يتمتع بها المواطن في دولة عاقلة، فقد كان اعتيادياً مشهد الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون وهو يدخل في مشادة كلامية مع أحد الفلاحين خلال جولة على معرض باريس الدولي الزراعي السنوي قبل أيام، علما أن الزيارة جاءت كنوع من الاستجابة للاطلاع على مطالب المتخوفين من اتفاق تبادل تجاري توقعه فرنسا ضمن السوق الأوروبية مع دول أمريكا الجنوبية، ويمس الاتفاق المزارعين مع احتمال استيراد لحوم البقر الرخيصة من البرازيل.

يقول المزارع مخاطباً ماكرون: "تحدّث معي بأدب"، وربما لن يجد كثيرون مبرراً للرئيس الفرنسي وهو يستخدم نبرة صوت عالية، فيما قد لا يبرر الكثيرون عبارة "غير مهذبة" استخدمها أحد المزارعين، وقد يحدث العكس، لكن دائما تحت سقف فرنسا الدولة، وضمن حريّة التعبير التي يضمنها القانون والدستور.

ليست الأخلاق الفردية هي العامل الحاسم في ضمان الحريات، بل القانون، فالإنسان ينزع إلى الحرية، كما ينزع إلى التوحش، لكن منظومة القوانين التي يضعها المشرّعون، ويتم التعاقد بشأنها عبر استفتاء إرادة الشعب، هي الضامن الحقيقي للمواطنة والحرية والديمقراطية والاستقرار. 

كنت أعمل في وكالة الأنباء الرسمية للدولة السورية (SANA)، وخلال نقاش مع مسؤول حول ترتيب نشر الأخبار على الموقع الإلكتروني للوكالة، قلت له إن أهم خبر في الصفحة الرئيسية يجب أن يكون المادة الأهم في حياة الناس السوريين، وتصادف وجود حزمة قرارات وقوانين لمجلس الوزراء تخصّ اقتصاد الدولة وقضايا في غاية الأهمية، وأذكر أن بينها ما يتعلق بقانون التأمينات الاجتماعية، كما تصادف يومها خبر إرسال الأسد برقية تهنئة بالعيد الوطني لإحدى الدول. 

انتهى النقاش عندما قال لي المسؤول: "لا يجوز نشر أخبار رئيسية أخرى عندما يكون هناك خبر للسيد الرئيس بشار الأسد"، وفهمت أنها عبارة عن تعليمات من "سلطات عليا" حسبما يصطلح عليه في سوريا، لكن ما لم أفهمه هو العبارة التالية لذلك المسؤول، وهي أنّ هناك "مسافة" يجب المحافظة عليها بين الرئيس وباقي الناس، وبين أخباره وباقي الأخبار سواء أخبار الحكومة أو الشؤون العامة المتعلقة بالشعب.

"المسافة" التي تحدث عنها المسؤول هي في حقيقتها "الكماشة" التي يتم بها اقتلاع أظافر معتقلي الرأي، وهي المعيار الذي تحدد السلطة ما يمكن للمواطن قوله، وما هو ممنوع، إنها "تاج الشوك" الذي يجعل من جميع السلطات والمؤسسات والدوائر نسخة مكررة، هدفها الدّفاع عن الزعيم أو الرئيس أو الملك. 

راجعت الدستورين الفرنسي والسوري، ليتبين أن الأخير يتفوق في عدد العبارات والكلمات التي تتحدث عن سلطة الشعب، وحكم الشعب، وحرية وحقوق المواطن، وهي مفارقة غريبة، تسوقنا إلى البحث في المفهوم الحقيقي للحرية والمواطنة، إذ كيف يحق لفرنسي أن يرفع صوته في مواجهة الرئيس، فيما تَجزّ المخابرات السورية حنجرة شاب لأنه هتف للحرية. 

السؤال الآن، هل نحن مدعوون لحرية مسؤولة، وهل الحرية مجرد حالة، أم أنها هدف أسمى، أم أنها وضع يتطلب التفكير في آليات تثبيتها وتحويلها لمكتسب أو قيمة أساسية في بنية الدولة والمجتمع، وهنا يبرز التحدي بالانتقال من الوعي الفردي إلى الوعي الجماعي إلى مفهوم الوطن والمواطنة. 

يقول الكاتب الفرنسي أندريه جيد: "لا يعني شيئا أن تعرف كيف تتحرر، المهم هو أن تعرف ما بإمكانك فعله بحريتك".

*علي عيد - من كتاب"زمان الوصل"
(177)    هل أعجبتك المقالة (193)

محتار بن حيران

2018-09-20

هل يستطيع بشار حكم فرنسا؟ عقلية الشعب الفرنسي هي التي تجبر مكرون على الحكم بهذه الطريقة وليس العكس أيها الكتاب: غيروا عقلية الشعب السوري بقلمكم حتى يذهب بشار ويأتي مكرون السوري ليحكم سوريا.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي