أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ملاحظة سريعة حول اليسارية العلوية.. فؤاد حميرة*

من معرض فني في العاصمة دمشق - جيتي

فرضت أحداث الثورة في السنة الأولى من عمرها أحاديث قد تبدو في ظاهرها ذات طابع طائفي، ولكنها في العمق أبعد ما تكون عن ذلك، وجلّ ما قصده البعض من دراساتهم ومقالاتهم لا يتعدى البحث في مواقف الطائفة العلوية المعادية للثورة ودراسة أسباب تلك المواقف، والحديث يدور هنا عن النخبة من مثقفي الطائفة السنية.

وأنا لا أريد الخوض في غمار تحليل مواقف الطائفة العلوية عبر مقالة تأتي على عجالة وإنما يهمني التنويه إلى مواقف بعض اليساريين من أبناء الطائفة والذين أعلنوا عداءهم وبشراسة للثورة بذريعة أنها ترتدي لبوسا إسلاميا وتخرج من المساجد وما إلى ذلك من مواقف كان الغرض منها تبرير التخاذل عن نصرة الحق والتقاعس في دعم مطالب الحرية.

وإن كنت لا أقصد الرد على أحد بعينه، إلا أن الأمر لا يمكن أن يمر دون التعريج على دعاة اليسار من مؤيدي النظام والذين باتوا مثقفين وروادا في الفكر استنادا إلى قرارات صادرة عن الأجهزة الأمنية، وتم تعميمهم كأصحاب رأي فكانوا من أشد الناس عداء للثورة وأكثرهم انحيازا للنظام المجرم.

وربما يتماهى هذا الموقف مع ما أعلنه معظم اليسار العربي من تأييد للنظام، وعداء واضح للثورة تحت ذات الحجج والذرائع، وسوف نقصر الحديث هنا عن بعض اليساريين العلويين، دون نسيان بعضهم الآخر الذي أعلن انحيازه الكامل للثورة، محللا بدقة وعقل بحثي محض الأسباب التي دفعت بمثقفي الطائفة نخبتها إلى التحرك باتجاه النظام ودعمه، وأحيلكم هنا إلى المقالات الدراسات التي نشرها الدكتور راتب شعبو في عدد من الصحف ومراكز الأبحاث العربية لمن يرغب في الاستزادة من التفصيل والتدقيق حول الموضوع.

يشد الشاب العلوي رحاله إلى دمشق بعد أن قضى فترة من مراهقته كشاعر أو أديب ومفكر لا يعرفه أحد خارج نطاق قريته، محملا بأحلام الشهرة التي تدعمها قرابته من أحد المتنفذين الأمنيين، فيكون له ما حلم به وكأنها على مبدأ كن فيكون، وفي حقيقة الأمر أنه لو تم العمل وفقا لقانون الكفاءة والقدرات والموهبة لما نجح في تحصيل وظيفة بواب على إحدى العمارات في الأحياء المتوسطة الحال.

وتبدأ رحلة اليسار في دمشق حين يتعرف (بحكم عمله كمخبر) على بعض اليساريين ويحضر حلقاتهم وجلساتهم ملتقطا بعض الجمل الأثيرة لدى العامة والتي توحي بحسن الاطلاع والثقافة، فيتحول إلى لص يساري يسيء لفكر اليسار وسمعته، ويصبح اليسار عبره وبسببه دريئة يسهل إطلاق النار عليها من أي كان وفي أي وقت كان، هذا اليساري الذي يطلق لحيته ويعلن جنونه ويصب جام حقده على كل مبدع في البلد، ليقفز على أسماء الرواد منتقدا إياهم، مصدرا نفسه (بمعونة أمنية) كناقد ومفكر ومثقف وأديب وشاعر، يستغل المساحة التي توفرها له أجهزة الأمن ليثبت طهارته عبر بعض الانتقادات لمسؤولين ستتم إحالتهم أساسا إلى المعاش أو إلى التحقيق، وقد يهمس قريب متنفذ في أذنه بمعلومة حول شخصية حكومية ما، يستفيد منها صاحبنا في إعلان نفسه "كارل ماركس سوريا"، ومن ثم يتحول إلى "كارل ماركس الطائفة العلوية"، ويتجمع أمثال هذا الشاب مشكلين فيما بينهم ما يمكن أن نطلق عليه (الماركسية العلوية) علما أن بعضهم لا يعرف عن الماركسية سوى اسمها وبعض من جدليتها.

النوع الآخر من الماركسيين العلويين، أو دعاة الماركسية، تلك الفئة التي قضت في سجون النظام فترات من الحبس تتراوح بين خمسة إلى سبع سنوات، وربما قطع بعضهم هذه الفترة بكثير ومع ذلك تراه ينقلب إلى ماركسي علوي مع أية مطالبة بالحرية، انطلاقا من أن غالبية المعارضين هم من الطائفة السنية، متناسين أن 80 في المائة من سوريا هم من السنة وأن السنة في سورية لا تجوز مقارنتهم بسنة لبنان على سبيل المثال، فالسنة هناك وبحكم الديموغرافيا طائفة، أما في سوريا وبحكم الديموغرافيا أيضا، ليسوا مجرد طائفة، بل هم وطن، وهنا ينتفض اليساري العلوي معلنا يساريته الرافضة لحكم إسلامي، ولكنه يرضى ضمنا بحكم مسيحي، رغم نه في الواقع لن يقبل إلا بحكم علوي، يصون مصالحه ومصالح أقربائه وابناء قريته ومنطقته.

هم يساريون وعلمانيون ولكنهم لا يمانعون في الغرق بالفساد لأنه يقوي وجودهم ويعززه، فلولا الفساد لما كان لهم شأن في الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية، هم يساريون ولكن على مقاس مصالح الطائفة لا مصالح الوطن، ومع ذلك تراهم يطلقون سهام اتهاماتهم على الآخرين متهمين إياهم بالعمالة وبالطائفية وبالخيانة، في قفزة مكشوفة فوق كل الحقائق التي تؤكد أنهم يضعون مصالحهم الشخصية أولا فوق كل مصلحة وفوق كل اعتبار ومن ثم مصالح الطائفة فوق مصالح الوطن، هذا الانتماء الطائفي يعزز في نفوسهم السلطة والقدرة على النفاذ إلى كل مفاصل الدولة واستغلالها واستثمارها.

لست طائفيا ولن أكون في يوم من الأيام، وما سبق ذكره في هذا المقال أبعد ما يكون عن الفكر الطائفي، ولكنه الحقيقة التي لم تعد تقبل التغييب تحت مسميات هشة أكل الزمان عليها وشرب، ولسوف يكون للمقال تتمة في أعداد قادمة، يكون الحديث فيها أكثر دقة وأقرب للأجواء البحثية منه إلى العاطفة التي تحكمني الآن وتحكم حروفي بسبب صمت دعاة اليسار عن كل المجازر التي حدثت وتحدث في أنحاء البلاد، وأخص منها أقربها إلينا زمانيا، مجازر الغوطة.

*من كتاب "زمان الوصل"
(176)    هل أعجبتك المقالة (176)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي