أخي يا من تعيش اليوم في قلب العاصمة دمشق، أخبرك يا أخي وأنت تجلس آمناً بين أولادك، أو داخل مكتبك أو متجرك، أو في مطعم أو مقهى على ناصية الطريق، أخبرك أنني في الغوطة لا أنام منذ ثلاثة أيام، فقد اضطررنا للنزول إلى القبو أنا وأطفالي، وقد انقطعت عنّا كلّ سبل العيش، فلا طعام يصلنا ولا ماء، وأخبرك أن الملجأ الصغير ممتلئ عن آخره بنحو 30 شخصا جلهم من الأطفال والنساء، وأن زوجتي ماتت في قصف العام الماضي وفقدت أنا ساقي يومها.
أخي الشقيق.. سمعت أنكم تتمنون موت كلّ من يعيش في الغوطة، وأتساءل إن كنت فعلا تحمل ذات الأمنية، وقد تذكرت للتوّ كيف كنّا نتمرّغ فرحاً، أنا وأنت، في فناء البيت العربي الفسيح، ونتقاسم الفرح والحزن والدّم والعروق ورغيف الخبز معاً.. أحقاً أولادك بخير؟؟، لقد اشتقت لهم جميعاً، خصوصاً تلك الملعونة، "ياسمين الشام"، التي لطالما حملتها على كتفيّ، وتمنيت أن أرزق بمثلها حين أتزوج، وقد فعلت وأنجبت طفلة وأعطيتها ذات الاسم.
آخر ما أعرفه أن "ياسمين الشام" ابنتك ستتخرج من الجامعة طبيبة عيون، كم أفرحني الخبر، لأن "ياسمين الشام" ابنتي فقدت بصرها في ذات القصف الذي فقدت فيه أمها، وقد أخبرتني بأنها تحلم باليوم الذي تلاقي فيه ابنة عمّها، فهي تأمل بأن تساعدها بعلاج بصرها، وأنا دائما أواسيها، علما أن القصف أحرق عينيها، وهي في أحسن الأحول تحتاج لزجاجتين وعمليات تجميل تخفف من فجيعة ومظهر الحروق في وجهها.
شقيقي الغالي.. حمدت الله كثيراً أنني فضّلت أن أترك لك بيت والدي في دمشق وأرحل لأعيش في الغوطة، فكم تخيلت لو أنك مكاني، كم ستعاني، وكم سأعيش أنا من العذاب والقلق على حياتك وحياة أطفالك، سبع سنوات من القصف والرعب والموت، وأربع سنوات من الحصار والجوع مات فيها أطفال كثيرون.
أخي الحبيب، لا أعلم سبب كلّ هذه النيران، فبالأمس قتل في الملجأ المجاور 25 طفلاً، وربما يكون دورنا اليوم أو غداً أو بعد غد، وكلّ ما يحزنني أن لا أراك قبل أن أموت.
شقيقي الحبيب.. إياك أن تعرّض نفسك للخطر، ولا تخبر أحداً بأن لك أخاً في الغوطة حتى تنتهي الأمور، لأنني أخشى عليك من الأوغاد، فهم يعتبروننا إرهابيين، وكلّ ما أتمناه عليك أن تدعو لنا بقلبك، وإن رحلت أنا وبقي أحد أطفالي حيّاً وهدأت الأوضاع أرجو منك أن ترعاه، فربما يواسيني إحساس وجودك بجانب فلذة كبدي.
حبيبي وشقيق عمري.. أتقدم منك بطلب بسيط.. حين يكبر ولداك لا تتركهما يسكنان في منطقتين مختلفتين، حتى وإن كانت المسافة الفاصلة شارعاً، أو بضع أبنية، كي لا ينكر أحدهما الآخر وهو يموت، وعلّم كلا الأخوين بأن لا يصالح أحدهما على دم الآخر، فالصمت على دم الأخ مُذلّ.
أقول لك، خذ ولديك في حضنك ولقنهما هذا الشعر إن قتلّ عدوّ أحدهما:
"لا تصالحْ ولو منحوك الذهبْ
أترى حين أفقأ عينيكَ
ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى".
أخي الشقيق في دمشق:
"هل يصير دمي - بين عينيك- ماءً ؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
أتلبس - فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب ؟
إنها الحربُ قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ.. ولا تتوخَّ الهرب".
ـــــــــــــــــــــــــ
تنيه: المقطع الشعري من قصيدة "لا تصالح" للشاعر أمل دنقل.
*علي عيد - من كتاب"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية