واحد بعد آخر نواصل الرحيلَ.. بعضنا مضى في عجلةٍ. لم يخبّئ في صدره حفنة من دمشقَ. ظنّ الرجوعَ أقربَ من إغفاءة الياسمين.
بعضنا ملأ الحقائبَ بالذكريات وماتبقّى من حياة، ورمى مفاتيحَ عودته للريح المزاجية.
بعضنا مازال يلملم نفسه.. ماذا ينتظرُ ليحزمَ روحه ويغادرَ؟ ركناً صغيراً مغفلاً في استراحةٍ أو جذع صفصافة يرسمُ عليه إمضاءه وبريقَ عينيه ودفءَ ابتساماته؟! يخافُ أن يموتَ مرّتين.. هنا وهناك؟!
سنة وراء سنة تنسى المقاعدُ تفاصيل من رحلوا..شكلَ إيماءاتهم.. طعمَ فرحهم وصخبَ طيشهم، ونجوى أشواقهم المزمنة.. كيف يحبّون القهوة.. وأيّ لونٍ وعطرٍ ينتقون للمساءات الحميمة.. وماذا قالتِ الأبراجُ عن أهوائهم أو أقدارهم.
يوم وراء يوم تواصلُ دمشقُ العنيدة رتقَ مامزّقوا من نسيجها. تكتظّ بأجسادٍ وملامحَ جديدة لتظلّ مشغولة عن جراحها، وتملأ فراغ الغياب. تأبى دمشقُ ترميمَ ذكرياتها. تحاولُ صناعة الأحلام.. أتراها هذه الأمّ الأزلية تسعى لردّ الغائبين؟ أو للّحاقِ بهم؟!
وهل نسيَ الراحلون تفاصيلَ المكان؟ كم منعطفاً يصعدون إلى قاسيونَ.. وموسمَ النارنج وسيدة الشذى وردة دمشقَ؟!
هل نسوا القلعة وبردى.. تنامُ على ذراعه، فيهمسُ واهناً شاحباً تارة، وتارة يثورُ على صمتها الحجريّ؟!
وكم مرّة ضاعوا متعمّدين في تلافيف الدروبِ بين باب توما والعمارة ومدحت باشا لتستيقظَ أرواحُهم في عبقِ توابلِ البزورية ونباتاتها السحرية الغرائبية؟!
وكم استراحة أو حديقة ضمّت حنينهم، واحتوت ثرثراتهم اللانهائية؟!
ذهبوا ولم يخبروني يوماً عن صور الأحبة كيف ترتجف في بحيرات الدموع..
لم يكتبوا عن رائحة الشوارع والأزقة كم أيقظتهم آخرَ الليل ليبكوا!
لمّا جاء دوري في الرحيل.. بكت ميسونُ كثيراً وقالت: ألن أراكِ لو عدتُ يوماً إلى دمشقَ؟!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية