• وكلاء "بوتين" عبروا بحشود الروس من الموت بالسم والبؤس إلى الموت بالرصاص
• هل سيحضرون لي قطعا ويقولون: هذا هو زوجك؟!
• "فاغنر" تعزف مقطوعات نازية بأصابع ضابط استخبارات متقاعد
• 217 روسياً على الأقل عاينوا أهوال الجحيم في يوم واحد، وأدارت لهم الحكومة ظهرها
• أحد القتلى كان يحصل على 1300 دولار شهريا في سوريا، بينما تستلم زوجته 25 دولارا في روسيا اليوم
• مرتزقة الأرثوذوكس الذي جندهم النظام في سوريا شكلوا نسخة ممسوخة تتحمل نفس الأخطار ولا تحظى بنفس المكاسب
• جيش بوتين الخاص مهمته التنصل وحفظ ماء الوجه
إذا كان يصح أن نقول إن وقائع 7 شباط/فبراير تمثل "أم المعارك" التي خاضتها واشنطن مباشرة في سوريا، لكثرة ما أسقطت فيها من قتلى، فإنها على الجانب الروسي تمثل ما يمكن وصفه بـ"أمّ الـمقَاتل" ولنفس السبب، وفق ما سيخبرنا هذا التحقيق عبر رسم مشهد مفصل يتخلله العدد الحقيقي للذين لقوا مصارعهم في "أربعاء دموي" سيذكره الروس طويلا.
ويعتمد تقرير "زمان الوصل" على شقين رئيسين، يتمثل الأول في ترجمة فحوى موضوع نشره موقع روسي محلي الطابع، وأجرى فيه لقاء مع زوجة أحد القتلى وعمدة المنطقة التي يتحدر منها مرتزقة روس يقاتلون في سوريا، أما الشق الثاني فتبلوره معلومات تعقبنا مصادرها في الداخل السوري تتعلق بقتلى من "عظام رقبة" الروس، وفقا للرابط العقائدي والمصيري والرعائي الذي يربط الطرفين.. ونقصد بهؤلاء المرتزقة المنتمين إلى الطائفة الأرثوذكسية.
ورغم تعدد وسائل الإعلام التي تعرضت لما حدث في 7 شباط، فقد رسا خيارنا على الموقع الروسي المحلي ليقيننا أن مثل هذه المواقع إنما تنشط في ميدانها الذي تعرف كثيرا من تفاصيله الصغيرة ومتناهية الصغر، كما إنها تأخذ "أريحيتها" في عرض هذه التفاصيل، من منطلق أن قاعدة قرائها عبر العالم ضيقة للغاية، بخلاف المواقع الكبيرة (على المستوى القومي أو العالمي)، والتي تكون مقارباتها لمثل هذه الموضوعات عامة نوعا ما.
فقد استقبلت مقاطعة "سفيردلوفسك"، وتحديدا مدينة "أسبست" ومحيطها أنباء مفجعة بالنسبة لسكانها، تعلمهم بسقوط أبناء وأزواج وإخوة وأصدقاء ذهبوا للقتال في سوريا، لكنهم عوملوا مثل "الكلاب"، و"فئران التجارب"، وكانوا بمثابة "خنازير سيقت إلى الذبح" مجانا.
وقبل الولوج إلى صلب المشهد الذي أحاط بمقتلة الروس الكبرى في دير الزور، لابد لنا من مقدمة أعددناها خصيصا لوضع القارئ في جو بعض المناطق التي تستجلب منها موسكو مرتزقتها، وهي مقدمة مهمة وأساسية للغاية لفهم طبيعة النظام القائم في روسيا، وإصراره على قتل سكان تلك المناطق أكثر من مرة، فمن لم يمت منهم بالسموم والبؤس مات بغيرها.
* كاوبوي
اكتسبت مدينة "أسبست" اسمها من كلمة "أسبستوس" (تعريبها الحرير الصخري)، كونها تملك أكبر منجم في العالم لإنتاج هذه المادة شديدة الخطورة، والتي تقتل نحو 15 ألف شخص في أوروبا وحدها كل عام، نتيجة ما تسببه من أورام سرطانية تفتك بأجزاء مختلفة من الجسم.
وبعكس بلدان كثيرة حظرت استخدام "الأسبستوس"، فإن روسيا الرازحة تحت وطأة تخلفها في ميادين الاقتصاد وحقوق البشر ما تزال تصر على مواصلة إنتاج هذه المادة، والمخاطرة بحياة ملايين البشر في روسيا، وحول العالم حيث تصدر منتجاتها.
وتمتلك روسيا أكبر احتياطي من "الأسبستوس"، بل إن ربع إنتاج العالم يأتي من منجم "أسبست" الذي يمتد على بقعة طولها 11 كيلومترا وعرضها 3 كيلومترات وبعمق 300 متر تقريبا، وهي بذلك تعد من أكبر وأخطر بؤر التلوث في عموم البلاد.
وبناء على هذا، باتت مدينة "أسبست" تتقلب على صفيح الموت المخبوء في غبار وسموم "الحرير الصخري"، وبات أهلها بين نارين.. نار الرحيل عنها إلى غير رجعة، أو انتظار السرطانات والأورام التي تفتك بأجسادهم دون أن يجدوا من يهتم لأمرهم، ومن هنا لم يكن غريبا أن يتقلص عدد سكان "أسبست" على مر السنين، وكأنها مدينة ليس فيها مكان للولادات بل للوفيات فقط (هبط عدد سكانها في السنوات الأخيرة من 76 ألف نسمة إلى نحو أقل 68 ألفا، وكان في عام 1989 يناهز 85 ألفا).
ولأن "بوتين" يحكم بعقلية "ستالين" التي تفضل الحجر على البشر، وتضحي بالناس فداء المال، فقد قاوم هذا النظام أي محاولات لتخليص المدن والمناطق الروسية من الصناعات والمناجم التي تشكل خطرا مميتا على حياة الملايين، بل كان يعمد كل فترة للتلويح بمزيد من الفقر والبؤس في وجه أي منطقة يطالب أهلها بإقفال مصانع ومناجم السموم، ضاربا بسيف "الدراسات" الحكومية، ومنها واحدة تقول إن هناك 467 مدينة و332 مدينة صغيرة تعتمد في حياة سكانها على مصنع أو منجم واحد، وإن 25 مليون روسي (من إجمالي السكان البالغ 142 مليون نسمة) يعيشون في بلدات لا يوجد فيها سوى صناعة رئيسة واحدة، لا يمكن الاستغناء عنها حتى لو كانت تهدد حياة هؤلاء الملايين.
وهكذا بات البؤس من أمام الروس والبؤس من ورائهم، وعن يمينهم وشمالهم، في مدينة يغطي الغبار السام فيها كل شيء، حتى إنه يحجب عنك رؤية الشخص الذي يقف بجانبك بعض المرات.. وفي هذا الجو وكما يظهر قاطع الطريق والقاتل المحترف بزي حاكم البلدة (الشريف) في بعض أفلام الكاوبوي الأمريكي، ظهر وكلاء "بوتين" بحلة "المخلصين" وفي أيديهم "حل" لرجال هذه المناطق ومحيطها، يعبر بهؤلاء اليائسين من الموت البطيء بسموم التلوث إلى الموت السريع بالرصاص والقذائف!
البداية كانت مع اندلاع الأزمة الأوكرانية حيث وجد "بوتين" ملعبا رحبا للزج بمرتزقته سواء عبر البوابة الرسمية (القوات المسلحة)، أو عبر البوابات الخلفية ممثلة شركات الأمن الخاصة، وأبرزها شركة "فاغنر".
ومن هنا تدفقت حشود من المرتزقة الروس إلى مناطق الانفصاليين في أوكرانيا (دونباس) مدججة بشتى أنواع الأسلحة، وبعقود وعهود تمنيهم برواتب كبيرة للغاية، وتعويضات مغرية جدا إن هم قتلوا دفاعا عن "السيادة الروسية" و"الشعور القومي".
وعلى نفس المنوال، جرى شحن الكثير من هؤلاء المرتزقة لاحقا نحو سوريا؛ ليتولوا مهمات متعددة، تتمحور في النهاية حول جني المزيد من الأموال.. القليل جدا منها لصالح هؤلاء المرتزقة وعوائلهم البائسة، والكثير الكثير لصالح "بوتين" ووكلائه المخولين بشؤون الثروة.
*عار آخر
يقول موقع "زناك" الروسي المحلي إنه تمكن من التواصل مع زوجة أحد مرتزقة "فاغنر"، بعد أن تأكد أن زوجها "ستانيسلاف ماتفييف" البالغ من العمر 38 عاما قد لقي حتفه في الأربعاء الدموي يوم 7 شباط/فبراير، وإنه (الموقع) تواصل أيضا مع زعيم "أسبست" (يدعى أتامان بلغة القوزاق)؛ ليطلع منه على ظروف ما حدث؛ وليطلع من خلال هذا "الأتامان" على العدد الإجمالي لقتلى الغارات الأمريكية ضد الروس في محافظة دير الزور.
فمنذ تلقيها نبأ مصرع زوجها، تقبع "إيلينا ماتفييفا" في المنزل، مصابة بشبه انهيار عصبي، تحتال عليه بأخذ المهدئات، محاولة طي صفحة 13 سنة قضتها مع رجلها (ستانيسلاف) الذي "عاملها بتقدير"، قبل أن يبلغها "الأتامان" نبأ مصرعه.
تشرح: اتصل بي "أتامان أسبست" وسألني: متى هاتفك زوجك آخر مرة، فأخبرته أن ذلك كان قبل 3 أيام، ثم عاود الاتصال بي بعد نحو دقيقة ليقول: "ستانيسلاف وإيغور (مرتزق صديق له) رحلا".
ووسط نشيج بكائها توضح الزوجة أنها ما تزال بانتظار تسلم جثة زوجها، التي تم نقلها مع جثث آخرين إلى مدينة "روستوف" لإجراء فحص الحمض النووي، بغية التأكد من هويات القتلى (يعزز هذا رواية تفحم معظم المرتزقة القتلى وتمزقهم إلى أشلاء، إذ لو كانت جثثهم سليمة لاكتفت روسيا باستدعاء أقاربهم للتعرف عليهم).
وتفتح "ماتفييفا" هاتفها المحمول لتستعرض مقطعا مصورا، ثم تنتحب: "لقد تم إطلاق النار عليهم هناك مثل الكلاب، مثل فئران التجارب".
ويكشف تسجيل آخر إحدى قنوات "تلغرام" الخاصة، جزءا من هول "الجحيم" الذي وجد المرتزقة الروس أنفسهم فيه يوم 7 شباط، حيث تم "سحق" نحو 200 منهم في موقع واحد، و10 في موقع آخر، وربما هناك قتلى غيرهم في مواقع أخرى، لكن "الحكومة ستدير لهؤلاء ظهرها، ولن يفعل أحد أي شيء لأجلهم"، وهذا "عار آخر" سيضاف إلى سجل مخازيها.
وحسب "ماتفييفا" فقد كان زوجها من الذين شاركوا في حرب "دونباس" ثم عاد ليستريح نحو عام، ومنها تم نقله إلى سوريا أواخر شهر أيلول/سبتمبر 2017، برفقة "كثير" من شباب المدينة ومحيطها، بعدما جنده قريبه "إيغور كوسوتوروف"، الذي بات قائدا لـ"ماتفييف" قبل أن يقتلا معا في نفس اليوم.
وحول المبالغ التي أرسلها لها زوجها قبل مقتله، تقول "ماتفييفا" إنها تلقت خلال شهر ونصف مبلغ 109 آلاف روبل (نحو 1925 دولار، أي بمعدل 1280 في الشهر، وهو مبلغ ضخم للغاية قياسا للحالة المأساوية لسكان تلك المناطق، وقياسا لمتوسط الرواتب في روسيا).
وتتذكر الزوجة برومانسية: كان رجلا رائعا لم يأذن لي بالعمل، بل كان يقول دائما إن عليّ الجلوس في المنزل ورعاية الأطفال.. وعلى هذا الأساس يهب معد التقرير ليسألها: أنت لا تعملين الآن إذن؟، فتجيب: لا، فيعود ليستفهم منها: من أين تعيشين؟ فتوضح بأنها تستلم 1380 روبل في الشهر (أي أقل من 25 دولارا!، وهنا لا بد من التذكير أن زوجها كان قادرا على إرسال 1300 دولار لها في الشهر الواحد، لندرك "قاع" الفقر الذي يتخبط فيه هؤلاء الروس، إلى درجة تجعلهم يرون أي فرصة أخرى -مهما كانت عادية- "قمة" لاينبغي تفويت فرصة اعتلائها حتى لو كان الثمن حياتهم).
*انتقموا لهم
وعند سؤالها عما إذا كان زوجها قد كُرّم أو منح رتبة أثناء قتاله في سوريا، تنتفض الزوجة لتقول: من الأفضل أن تخبرني من سيتصل بي، وهل سيبلغونني، إذا كان كل شيء قد حلت عليه اللعنة هناك (تستخدم مفردة شوراعية) كيف سيتعرفون على جثته، هل سيحضرون لي قطعا ويقولون لي هذا هو زوجك؟!
لقد ذهب "ماتفييف" للقتال في أوكرانيا، محاولا خداع زوجته –حسب ادعائها- بأنه يريد مساعدة ضحايا الحرب التي أشعلتها بلده، وأنه يريد المساهمة في بناء مساكن لهؤلاء المشردين، ثم تبينت الزوجة أن المهمة كانت غير ذلك تماما، وعندما ذهب إلى سوريا كانت الصورة واضحة تماما في ذهن زوجته، التي منّاها مع نفسه بالمال الوفير، وبعودة قريبة كان يخطط لها في شهر آذار/ مارس القادم.
لكن ما حاذرت "ماتفييفا" إظهاره بوضوح وهي تقدم نفسها بصورة الزوجة المخدوعة والمثخنة بالحزن، قالته بكل صراحة في جوابها على السؤال الأخير في المقابلة (ماذا تريدين الآن، وما هي الإجراءات التي ترغبين أن تتخذها الدولة؟)، لتقول: "أود أن يعرف الجميع عن زوجي، وليس فقط عن زوجي، بل عن كل الرجال الذين ماتوا بهذا الشكل الغبي، أين أرسلوا، ولماذا؟ حتى إنهم كانوا بلا أي حماية، تماما كما ترسل الخنازير إلى الذبح (المسلخ)! أريد من الحكومة أن تنتقم لهم".
وعند طلب "الانتقام" تنتهي المقابلة مع زوجة المرتزق القتيل، ليتم الانتقال إلى "الأتامان" أوليغ سورنين، للحديث حول معلوماته بخصوص أحداث السابع من شباط، حيث يتم اللقاء به في مكتب الفرع المحلي لاتحاد قدامى المحاربين في أفغانستان (للمفارقة، فإن أفغانستان تعد مقبرة الروس وجرحهم النازف الذي ما يزالون يلعقونه رغم مرور عقود).
ورغم حرج السؤال الأول عن "آخر حصيلة للقتلى الروس"، فإن "سورنين" يجيب بكل صراحة وتحديد: في اليوم الأول (7 شباط)، عندما حدث كل هذا، كانت هناك معلومات عن 30 قتيلا، ثم في 11 شباط كانت المعلومات تتحدث عن 217 قتيلا، (قياسا على تضاعف أعداد القتلى الذين تم إحصاؤهم بين 7 و11 شباط، وقياسا على شدة الغارات الأمريكية التي حولت المواقع المستهدفة إلى رماد ومن فيها إلى أشلاء، فإنه من المرجح أن لا يكون عدد 217 قتيلا هو الحصيلة النهائية، بل ربما تكون زادت بالعشرات من تاريخ تصريح الأتامان في 13 شباط حتى ساعة نشر تقريرنا).
*أنا أشاهد التلفزيون أيضا!
"سورنين" الذي يعرف القتيلين "كوسوتوروف" و"ماتفييف" كونهما ابن منطقته، التي هو "كبيرها"، رأى أن هذين الرجلين وغيرهما قرروا الذهاب إلى سوريا بدعوى "الشعور الوطني"، موضحا أنه تحدث إليهما قبل أسبوع من مقتلهما.. "كان كل شيء طبيعيا، كانوا يقومون بحراسة موقع خاص بإنتاج النفط" (تبدو الكلمة الأخيرة "النفط" كلمة السر المعلنة وقطعة الجبنة التي جلبت الروس حكومة ومرتزقة إلى سوريا، وتحديدا شرقها).
ويفصح "سورنين" عن مقدار التعويضات التي يفترض أن تتلقاها عائلة كل قتيل، وهي تناهز 3 ملايين روبل (نحو 53 ألف دولار)، وهو يبدو رقما فلكيا، يستحق لدى الروسي أن يبيع حياته لأجله.
وبوصفه زعيم المنطقة، والمسؤول عن تصريف كثير من شؤون سكانها، فإن "سورنين" لا ينطق إلا بمعلومات دقيقة، مؤكدا أن مبلغ التعويضات مستند إلى تعهدات شركة "فاغنر"، وأن احتمال المخاتلة غير موجود، حيث عادة ما يتم تسليم المبلغ إلى الشخص الذي قام بتجنيد المرتزق.
ويحاول "سورنين" أن يعطي جوابا غائما عندما يستفهم معد التقرير منه عن وجود "دعم تقدمه الدولة بطريقة أو بأخرى لهؤلاء الجنود الخاصين"، موضحا أن لو جاء شخص من سوريا مصابا ويحتاج عملا جراحيا فإنه لن يكون لديه أي مستندات توثق حالته، لأنه ملزم بـ"عدم الإفصاح" مدة 5 سنوات، بموجب العقد الموقع مع شركة "فاغنر" (أي إن هذا الجريح يضع نفسه تحت طائلة الملاحقة "القانونية" إن هو أفصح عن مكان أو طريقة إصابته أو الجهة التي يعمل لصالحها!).
ويرى "سورنين" أن لاشأن للمؤسسة العسكرية الرسمية بنشاط "المتعاقدين الخاصين" (المرتزقة)، وهو في نفس الوقت لا يرى مانعا ولا حرجا في أن تكون لدى بلاده شركات خاصة توظف المرتزقة.. "ولم لا؟!" والآخرون لديهم "بلاك ووتر"، في إشارة إلى الشركة الأمنية الأمريكية سيئة الصيت.
ولكن "فلاديمير بوتين أعلن في وقت سابق على الملأ أن كل شيء تم إنجازه، وأن سوريا باتت تحت سيطرة القوات الحكومية وبشار الأسد تماما".. يستفهم معد التقرير بشكل مستفز، فيرد عليه "سورنين" بعبارة ذات مغزى: "أنا أيضا أشاهد التلفزيون. هناك فرق بين ما يقال لنا، وما يقوله الناس الذين هم على تماس مباشر. لن نقول النصف، ولكن هناك جزء من الأراضي السورية لا زال تحت سيطرة تنظيم الدولة، وما زال على جنودنا التنقل من موقع إلى آخر، وعندما يحررون منشأة أو مصنعا يضعون عليه الحراسة، ثم يتحركون نحو بقعة جديدة.
وعلى نفس منوال السؤال الموجه إلى "ماتفييفا" وهل يتوقع "ردة فعل من الدولة بعد الحادث"، يجيب "الأتامان" سورنين نافيا توقعه لأي ردة فعل، فـ"أنا أعرف والجميع يعرفون ماذا لدينا (أي حكومة لدينا)".
*نسخة ممسوخة
عند هذه النقطة ينتهي الشق الأول من تقريرنا، ليبدأ الشق الثاني المتعلق بأولئك الذي نصبت روسيا نفسها لهم "أمّا"، ورضوا بأن يكونوا "أبناءها" الملزمين بطاعتها و"برّها"، ونقصد بهؤلاء جموع المرتزقة الأرثوذكس من سوريا، ممن انطلقوا للحرب تحت راية موسكو فكانوا بمثابة نسخة ممسوخة من مرتزقة "فاغنر" الروسية.. حيث يتحلمون نفس الأخطار وربما أكبر، ولكنهم لا يحظون بنفس "المكاسب" التي تمنح للروس.
فقد سقط إلى جانب القتلى الروس (217 قتيلا بشهادة الأتامان)، عدد غير قليل من مليشيا "صائدو داعش"، وهي فرقة من المرتزقة تولت موسكو تشكيلها في سوريا، واشرفت على تدريبها وتسليحها بغرض معلن هو قتال تنظيم "الدولة"، وتعهدت لمنتسبيها بتلقي راتب شهري يفوق أضعاف ما يتلقاه المجند العادي في جيش النظام (نحو 600 دولار)، لكنه في النهاية يقل عن راتب المرتزق الروسي بأكثر النصف في أضعف التقديرات، ومن هنا قلنا أن "صائدو داعش" ليسوا سوى نسخة ممسوخة عن "فاغنر" الروسية.
وإذا قسنا النسبة بين راتب المرتزق السوري المدعوم من موسكو ونظيره الروسي، وطبقنا هذه النسبة على التعويضات الأخرى، لاسيما تعويض القتل، فإننا لايمكن أن نتوقع مبلغا يفوق 25 ألف دولار لقاء أي قتيل يسقط من "صائدو داعش" السوريين.
فقبل أيام شيعت السقيلبية (إحدى قلاع الأرثوذكس في سوريا ومناطق النفوذ الحيوي لروسيا).. شيعت ما لايقل عن 17 مرتزقا قتلوا نتيجة الغارات الأمريكية، وقد أقيمت لهم مراسم استثنائية إلى حد ما، وكان لافتا باقات الورد المرسلة خصيصا من "اللواء جميل الحسن" مدير إدارة المخابرات الجوية، و"العميد سهيل الحسن" رئيس فرع المخابرات الجوية في المنطقة الشمالية (هنا يحسن التذكير بأن جميل وسهيل محسوبان على الروس، وباتا من أتباعهما إلى حد كبير ولافت، بل إن فلاديمير بوتين منّ على سهيل حسن باللقاء معه في زيارته الخاطفة لقاعدة حميميم نهاية العام الفائت، حيث أثنى على ما اعتبره شجاعة سهيل).
وعلمت "زمان الوصل" من مصادرها أن هجوم 7 شباط سدد ضربة موجعة لـ "فاغنر السورية"، أي مليشيا "صائدو داعش"، وأن هذه الضربة جعلتهم يتخذون قرارا باعتبار مليشيا "وحدات الحماية" (عصب قوات سوريا الديمقراطية) بمثابة عدو لا حل إلا بمحاربته والانتقام منه.
وزاد من مرارة الضربة التي تلقاها المرتزقة في السقيلبية، أنها جاءت عقب فترة بسيطة من إطلاق فرع رسمي لمليشيا "صائدو داعش" في المدينة، بعد أشهر طويلة من الإعداد واستقطاب الشباب للالتحاق بالمليشيا عبر شركة تسمى "شركة الصياد لخدمات الحماية والحراسة"، رخصها النظام رسميا، تحت إدارة "فواز مخيائيل جرجس".
وقد افتتحت "الصياد" مكتبها الرئيس في السقيلبية صيف العام الماضي، واستطاعت تشكيل أول وحدة من "صائدو داعش" في المدينة قبل نحو شهرين، ويبدو أن التجربة العملية الأولى (في دير الزور) كانت كارثية، وتركت في نفوس مرتزقة السقيلبية وذويهم ندوبا غائرة.
وإذا كان المرتزقة الروس الأصليون قد سيقوا كالخنازير إلى المسلخ، دون أن تكترث بهم حكومة بلادهم، فإن بإمكاننا أن نتخيل مشهد المرتزقة المستأجرين من روسيا، وكيفية إهمال موسكو لهم وتجاهلها لهم، بعد أن احترقت ورقة أعمارهم، بأسرع من احتراق بئر نفط من الآبار التي كانوا يحرسونها.
وإن كان من إضافة ننهي بها هذا الشق، فستكون كالتالي: سيذكر التاريخ أن واشنطن تدخلت وبعنف وقوة مفرطة للدفاع عن مناطق نفوذها في شرق سوريا العائم على النفط، دون أن تقيم أي وزن لهيبة موسكو ولا لغضبتها، وأن روسيا اندفعت بكل ما أوتيت من قوة وغامرت بزج المئات من عناصرها ومرتزقتها، ليسقطوا على الهامش.. كما سيذكر التاريخ أن هذه المعركة الحامية الوطيس كانت في سبيل النفط ولأجله.. النفط التي سقطت على أعتابه كل الذرائع الداعمة لعدم تدخل الأمريكان العسكري المباشر في الملف السوري، بدءا من ذريعة الافتقار إلى قرار صادر عن مجلس الأمن، وانتهاء بذريعة الخشية من الدب الروسي، مرورا بذريعة "السيادة السورية" التي لا يتم الالتفات لها وتفعيلها إلا عندما يتعلق الأمر بإدخال قافلة صغيرة من الأغذية إلى منطقة محاصرة.
*من هي "فاغنر"؟
ورد ذكر "فاغنر" مرات كثيرة خلال هذا التقرير، ما استدعى ختمه بمختصر مكثف يوضح هوية هذه المليشيا وظروف نشوئها ومشاركاتها في رسم صورة الدب الروسي، بكل ما للدب من أنياب ومخالب ووطأة ثقيلة تسحق كل ما يقع تحتها دون أدنى اكتراث.
تأسست "فاغنر" على يد "ديمتري أوتكين" (48 عاما)، وهو ضابط متقاعد خدم في القوات الخاصة (سبيتسناز) وتحديدا تلك التابعة لجهاز المخابرات العسكرية، وهذه أول نقطة تكشف هوية "فاغنر"، إذ إن مؤسسها (المعلن عنه) هو في النهاية ابن الجيش والمخابرات.
أما النقطة الأخرى التي تضيء على سيرة "فاغنر" وتختصر كثيرا من الشروح حولها، فهو أن الانطلاق الفعلي لـ"أعمالها" تزامن مع نشوب الأزمة في أوكرانيا واتخاذ موسكو قرارا حاسما بالتدخل لدعم الانفصاليين الموالين لها في ذلك البلد، ثم انتقال مركز ثقل "الشركة" المليشيا إلى سوريا، بعدما شرعن بشار الأسد الوجود الروسي في سوريا بحلول خريف 2015.
وإذا كان لكل شيء من اسمه نصيب، فلا شك أن للمليشيا نصيبا من اسم "فاغنر"، الذي أتى تيمنا بالاسم الحركي لمؤسسها "أوتكين"، الذي يعد من المبهورين بموسيقار النازية و"هتلر" المفضل، ونقصد به "ريشتارد فاغنر".
وبناء على هذه المعطيات وغيرها مما لا يتسع المجال لعرضه، خلص كثيرون ممن تقصوا نشأة "فاغنر" وأهدافها، إلى أنها ليست سوى جيش خاص بـ"فلاديمير بوتين"، مرعي وممول منه ومن حيتان السلطة والمال الذين يحتضنهم، وأن "فاغنر" ليست سوى حيلة من "الحيل القانونية" التي تضمن عدم مساءلة روسيا "الحكومة"، وبوتين شخصيا، عن أي انتهاكات أو جرائم ارتكبت في سوريا أو أوكرانيا، أو يمكن أن ترتكب لاحقا فيهما أو في غيرهما من البلدان، على أساس أنها جرائم ارتكبت بيد مرتزقة متعاقدين، لا علاقة للدولة بهم من قريب أو بعيد.
كما إن لـ"فاغنر" وظيفة أخرى لا تقل أهمية عن منح روسيا الرسمية فرصة التنصل من جرائمها.. ألا وهي حفظ ماء وجه "بوتين" وأركان حكمه، عندما يحين وقت إحصاء الخسائر وكشف الفاتورة الباهظة لتدخله في سوريا، حيث سيسجل مئات وربما آلاف القتلى على بند "المتعاقدين الخاصين"، وهكذا يظهر الجيش الروسي بصورة "البطل" الذي لم يخسر طوال حربه على الشعب السوري سوى بضعة مقاتلين.
وعند هذه المسألة بالتحديد، تبدو "فاغنر" ضرورة أكثر منها خيارا، لاسيما أن سجل الجيش الروسي في كل حروبه التي خاضها طوال العقود الماضية مثير للشفقة، لشدة ما تكبده من خسائر، تظهره بكل وضوح جيشا مهزوما وفاشلا في كل مهماته، إلا مهمة تدمير المناطق التي يجتاحها وتسويتها بالأرض.
وأخيرا، فإن "فاغنر" التي تقاتل اليوم في سوريا، ليست موئلا لقدامى المرتزقة الروس الذين حاربوا في أفغانستان أو الشيشان أو حتى أوكرانيا، بل هي أيضا مغناطيس يجذب إليه مختلف أنواع المجرمين من أنحاء مختلفة، لاسيما من البقاع التي تتبع للكنسية الروسية، كما هو الحال مع المرتزقة الصرب.
فقد خصصت "فاغنر"، مثلا، وحدة للمرتزقة الصربيين، تولى قيادتها "دافور سافيتشيتش"، الذي كان عضوا في مليشيا "نمور أركان"، ذات الصيت المرعب في مجال الفظائع التي شهدتها حرب البلقان، وهي جرائم مدونة في سجلات المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة.
وما تزال "فاغنر" حتى اليوم تسعى لتجنيد مزيد من المرتزقة حول العالم، وإرسالهم إلى جبهات الموت بعد أن تمرر أمام أنوفهم رائحة الدولار الممتزج بالنفط.
إيثار عبدالحق – زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية