يصبّ تصريح ماكرون الأخير بخصوص استخدام السلاح الكيماوي في سوريا في خانة اللاسياسة واللاموقف الذي انتهجته فرنسا في العقدين الأخيرين في ظل ثلاثة رؤساء فضلوا السير بمحاذاة الجدار وعدم دخول الميدان بمواقف بارزة رغم أنهم يقودون دولة تعدّ من بين الأعظم في العالم.
الأمر ذاته ينسحب على السياسة البريطانية التي التزمت خطّ السياسة الأمريكية، وهي التي انفعلت أسوة بها عندما قصف بشار الأسد الغوطة بالكيماوي عام 2013 وهددت بتوجيه طائراتها لقصف مواقعه، ولكنها انكفأت مع تمثيلية لافروف- كيري بحرف توجّه أمريكا من ضرب النظام إلى سحب سلاحه الكيماوي، وربطت معاقبة الأسد بموافقة مجلس العموم رغم أن رئيس الوزراء يمكنه اتخاذ القرار دون العودة إليه، وهذا لم يحصل.
وفي استعراض لمواقف بقية الدول الأوروبية من الحالة السورية يتبين أن معظمها التزم "الواقعية السياسية" وتعاملت مع طرفي الصراع، فادّعت صداقة الشعب السوري واعترفت بمؤسسات المعارضة وتعاملت معها من جانب، وفي الوقت ذاته استمرت علاقاتها مع النظام، وأشارت أدلة ملموسة إلى دعم إيطاليا وألمانيا له بمعدات إلكترونية استخدمت في سلاحه الذي قصف به المدنيين السوريين والمدارس والمستشفيات.
عندما يدّعي الرئيس الفرنسي أن بلاده لا تمتلك دليلا ملموسا على استخدام السلاح الكيماوي في قصف السوريين، فهو ينزع المصداقية عن الأمم المتحدة، وقد أثبتت ثلاث لجان شكّلتها منظمات تتبعها استخدام هذا النوع من السلاح في سوريا عبر الجو تحديدا، وهي بذلك تقدم دليلا ناصعا على أن النظام هو من نفّذ القصف باعتبار أن المعارضة المسلحة لا تمتلك سلاح الطيران.
فرنسا تبدو مرتبكة تجاه هذه المسألة فقد سبق لوزير خارجتها أن أشار إلى استخدام النظام للسلاح الكيماوي، ولكنها حتى الآن غير مستعدة لاتخاذ موقف قوي منه "ربما بانتظار رفع الغطاء الدولي"، لذلك يحاول ماكرون حجب الشمس بغربال من خلال نفيه وجود أدلة على ذلك، رغم أن أغلب العيّنات التي أخذت من المواقع التي قصفت بالكيماوي وصلت إلى فرنسا وتم تأكيد وقوع ذلك، هذا عدا عن مئات الوثاق المرئية التي وثقّت الجرائم.
عندما يقول ماكرون في تصريح سابق إن بشار يقتل السوريين وليس الفرنسيين فهو عدا عن أنه يمنحه رخصة قتل دون حساب، فهو تخلى عن مبادئ الإنسانية التي أرستها الثورة الفرنسية، وأبعد بلاده درجات كثيرة على سلّم الدول الفاعلة في العالم، متناسيا أن فرنسا كانت تحكم ثلث هذا العالم في مطلع القرن العشرين وكانت سوريا من بين الدول التي دخلها جيشها واستمر فيها ربع قرن.
لم تعد لفرنسا ومعها بريطانيا القدرة على التأثير في سوريا، أو أنهما لا تريدان ذلك، وهما اللتان وضعتا اتفاقية سايكس بيكو وتقاسمتا السيطرة شرق المتوسط العربي، وتخلّتا تماما عن دورهما للولايات المتحدة الأمريكية التي وكّلت روسيا في الأمر السوري ريثما يحين موعد جني الأرباح.
لا يريد السوريون محتلّا إضافيا لبلدهم لكنهم كانوا وما يزالون ينتظرون دورا فاعلا لأوروبا في بلدهم، يسهم في كبح جماح الإجرام الروسي، وقد تميّزت عقب الحرب العالمية الثانية بتصاعد اهتمامها بالشأن الإنساني والأخلاقي، وكانت طرفا ملطّفا للتطرفين الأمريكي الذي يسعى للهيمنة والتفرد والسوفيتي الذي يدعم الديكتاتوريات التي يخدم وجوده العسكري "الشيوعي".
أوروبا، بريطانيا وفرنسا على الخصوص، ستتحرك لوقف المأساة السورية فقط عندما يبدأ بذلك الجانب الأمريكي، وسنرى طائراتها تدك مواقع الأسد عقب بدء "إف 16" الأمريكية و"توماهوك" بفعل ذلك، ولن تسبقها، استمرارا لنهجها غير ناجز الاستقلال مع عدم وجود قيادات محترفة وشجاعة تسعى للتمايز، وهي عندما تفعل ذلك فإنها تنفّذ رغبة أمريكا، ولن تحقق مكاسب ميدانية سوى بعض فتات من عقود إعادة الإعمار.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية