منذ أن ترك جزء كبير من أهالي حمص مدينتهم ودخلتها ميليشيات النظام ومرتزقته غدت بيوتهم أطلالاً دارسة وتعرض الكثير منها للحرق بعد عمليات تعفيش ونهب منظّمة يندى لها الجبين، وتحت رماد الذكريات والإحساس المر بفقدان كل شيء ينهض شعور مواز لا يقل مرارة ووطأة عن فقدان البيت والوطن لدى عشاق الكتب ممن لم يستطيعوا حمل أي منها لدى خروجهم من بيوتهم، فتعرضت بدورها للنهب أو الحرق بهدف الانتقام من كل شيء جميل في حياة أهل المدينة في سيناريو يستعيد إلى الذاكرة ما أخبرنا به التاريخ عن حرق المغول بقيادة "هولاكو" لمكتبات بغداد ورميها في نهر دجلة عام 656 م حتى تحولت مياهه إلى اللون الأزرق من الحبر الذي كتبت به.
وتقول الشاعرة السورية "مناهل السهوي" في مقال لها بعنوان "الكتبُ موادُّ سريعةُ الاشتعال في الحرب" إن "من جاؤوا هذه المرة لم يرموا كتبنا في الأنهار ولم يشعلوا النار في مكتباتنا، لم يفكروا بكلّ السنوات التي قضيناها مع مكتباتنا الصغيرة، اكتفوا بإهمالها، بالسخرية من حامليها، اكتفوا بتركها خلفهم، كنبتات جافة، كعيون مغلقة كأنهم يقولون لا شيء يستدعي السرقة هنا".
"زمان الوصل" استنطقت في هذا التحقيق بعض ذكريات المثقفين والأدباء السوريين المتعلقة بمكتباتهم وشعورهم بعد فقدانها جراء الحرب نهباً أو حرقاً.
"نصف ذكرياتي هي عن الكتب" هكذا عبر الكاتب الساخر "أحمد عمر" لـ"زمان الوصل" لدى سؤاله عما يتذكره من مكتبته التي جمعها بشق الأنفس.
وبأسلوبه الساخر يضيف عمر أنه عندما كان يعثر على كتاب هام وجميل كان يتعامل معه كما يتعامل السبع الذي اصطاد فريسته يقبله ويلحسه بلسانه.
وأردف صاحب "هدهد في زجاجة" أنه لطالما كان يلوم أهله كيف فرطوا بمكتبته: "أكاد أبكي وكأنهم غدروا بي، الزمان له ممحاة، وله رياح، كان التغيير عاصفاُ ثم جاءت الحرب التي محت ودمرت كل شيء فكأنها فرصة الطاغية لمحو الأخضر واليابس، لم يترك حجراً يحمد الله مع أخيه الحجر".
الكاتب الذي يعيش لاجئاً في ألمانيا منذ سنوات أوضح أن الحديث عن كتبه ومكتبتيه في "عامودا" و"حمص" ينكأ في داخله جراحاً غائرة، وكشف أنه فقد كتباً تشبه المخطوطات النادرة لا يعرف كيف وصلت إليه، مضيفاً أنه لطالما أحب كتبه الممزقة، التي عليها آثار قلمه، وربما سقطت عليها طائشة من الشاي "كل خط أو إثر يحمل أثراً من بنان الأيام الخالية".
وتابع:"هناك كتب مهمة كنت أعود إليها دوماً، وتتضمن معلومات لوّنتها على حواشي كتبي للاستشهاد بها ودعم أرائي في المقالات أو القصص التي أكتبها وكانت تشبه ملح المطبخ الذي يضاف إلى كل الوجبات أو السكر".
بعد أن غادر سوريا راح عمر -كما يقول- يتصل بالأصدقاء من خلال "واتس آب" أو "فيسبوك" مثل المجنون، والناس جوعى والبراميل تسقط -حسب تعبيره- فيسألهم عن كتاب عنوانه كذا أو صفته كذا إن كان قد نسي اسمه وربما سأل عن الكتاب ذاته عشرين وربما مائة مرة، لافتاً إلى أن حالة من اللوعة والفقدان انتابته بعد انسلاخه عن ممتلكاته الأثيرة.
سرق مرتزقة الأسد كل شيء في منازل الحمصيين حتى أسلاك الكهرباء نشلوها من الجدران وبعضهم لم يكونوا يهتمون بالكتب، فكانوا يقلبونها ويدوسون عليها مع الكثير من مقتنيات المنازل، ولكن بعضهم فطن إلى القيمة المادية لهذه الكتب، فكانوا يحملونها في سيارات شاحنة ويبيعونها زع ما يباع بأسعار بخسة في "سوق السنة" الواقع في "عكرمة النزهة" أو على بسطات الأرصفة.
وذات السيناريو –كما يقول عمر- تكرر أثناء قصف مدينة حماة في بداية الثمانينات ولكن على يد أصحاب هذه المكتبات ذاتهم، الذين تخلصوا من كتبهم وضحوا بمكتباتهم التي حمل أغلبها الطابع الديني وكانت تلك "جريمة لا تُغتفر في عُرف النظام"، بعضهم أخذ الكتب إلى المزارع وحرقها ورماها في حاويات القمامة "وكأنه يرمي حزءاً من ذاته.
وكان الغزاة -حسب محدثنا- يبحثون كل شيء للتهمة، وكان اسم الله تهمة، كانت ثقافة أخرى يُراد لها أن تنمو مثل "رويدا عطية" ويُراد لنا كسوريين أن نقتنع بعبارة "حماة الديار عليكم سلام" وهكذا –حسب قوله- ضاعت آثار سوريا الحجرية والورقية".
الشاعر "مخلص ونوس" الذي يعيش في الكويت منذ سنوات طويلة ويعمل مدرسا فيها كشف أن مكتبته في مدينته "السلمية" لم تتعرض لضياع أو تعفيش بل هي مهجورة بعد غياب امتد لسبع سنوات عنها.
ولفت محدثنا إلى أن علاقة بعض الناس وبخاصة المهتمين منهم بالكتب والمكتبات تشبه "السر" أو "السحر"، وهذا مرتبط –حسب قوله– بغواية القراءة ذاتها وما تشكّله من قيمة لها علاقة بالوجدان، فالكتب هنا ليست مجرد مصدر للمعرفة، بل تصبح كائنات يرتبط صاحبها بها ارتباطاً إنسانياً.
ودأب "ونوس" قبل سنوات الحرب على ترك أثر في كل كتاب يقرأه سواء كان جملة أو ملاحظة أو تواريخ، لذلك يشعر عندما يفقد أي كتاب وكأنه فقد شيئاً من روحه ووجدانه، ولا يعوضه إعادة اقتنائه ثانية.
وأضاف محدثنا أنه لطالما غضب ممن يستعير كتاباً من مكتبته ولا يعيده، ليس لقيمته المادية بل لاختزانه قيمة وجدانية في داخله.
وكيل قسم اللغة الإنكليزية بجامعة "سطام بن عبد العزيز" الدكتور "أحمد العارف" روى بدوره أنه ترك في حمص مكتبة كبيرة نسبياً عندما غادرها عام 2010 وتضمنت هذه المكتبة التي اُحرقت فيما بعد -كما يؤكد- كتباً باللغة الإنكليزية تتعلق باللغويات والقواميس المتنوعة من عربية وسريانية وإنكليزية وفرنسية وإسبانية، وكتباً في التاريخ والدين والثقافة العامة.
"العارف" كشف أنه كان يسكن مع أشقائه في عمارة مؤلفة من ست شقق تعرضت جميعها للنهب أثناء اجتياح قوات النظام لحي "الخالدية" الحمصي قبل سنوات، أما الشقة التي كانت تحتوي مكتبته، فتم حرقها لتتحول إلى رماد.
وأردف أن جنود النظام كتبوا على جدران شقته الخارجية عبارة تنم عن التشفي والحقد: "خلي الكتب تنفعك" وكتبوا على باب الشقة "مع تحيات أم النحاس" كناية عن نهبهم حتى أسلاك الكهرباء.
وأكد محدثنا أن مكتبته كانت تضم كتباً نادرة ورثها عن خاله وجده ومنها قواميس عربية بنسخ قديمة مثل القاموس المحيط مثلاً، وكان هناك كتب سريانية قديمة في اللغة والدين اشتراها -كما يقول- في إحدى زياراته إلى القامشلي وبعضها أصلي وبعضها الآخر نسخ مصورة.
في وسط الحداد على الذكريات والحزن على الأماكن المدمرة التي طمرت تحتها تفاصيل الحياة اليومية المزدحمة تبقى الكتب والمكتبات هي الباقية لا يمكن تعويضها أو نسيانها لارتباطها الحميمي بوجدان أصحابها، ولكن يبقى السؤال عن الغد الذي يخيم عليه ضباب كثيف.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية