بعد أيام من مجزرة "الحولة" في أيار/2012، توجه صديق وزميل مهنة إلى المنطقة بغرض التوثيق، كان هذا الصديق منهمكاً في تأمين الغذاء والعلاجات الطبية إلى أبناء تلك المنطقة، وبذل من أجل هذا جهداً وافراً، وكان يصل الليل بالنهار بعض الأحيان مخاطراً بروحه.
ذات مرة كان قد أرسل كمية من المعدات الطبية والأدوية بينها جبائر للكسور، بعد أن طلبها أبناء المنطقة نظراً للإصابات الكثيرة في الساق والذراعين، وكنت شاهداً على ما يقوم به الرجل، وليس هذا بيت القصيد.
خلال زيارته التي كاد يقتل فيها على الطريق من دمشق إلى "الحولة"، وبعد أن وصل ليتقصى ويسجل شهادات تدين المجزرة بغياب الإعلام، أوقفه قائد مجموعة مسلحة في منطقة "الحولة"، وبعد كيل الشتائم والاتهامات طلب حجزه معتبراً أنه شخص مدسوس تابع للنظام، وكان قائد المجموعة العسكرية يعلق يده في كتفه بواحدة من الجبائر التي أرسلها الصديق المحتجز.
لم يكن صديقنا من هواة كشف ما يقوم به خدمة لأبناء بلده وثورتهم، وظل كذلك طوال الوقت، وهو ما أوقعه في حرج أن يقول لقائد المجموعة المسلحة عن حقيقة الجبيرة، ولم يكن من بدّ إلا أن يتدخل أحدهم ليعرف عن الرجل، لتنتهي القصة دون احتجاز أو حتى تعذيب.
مضت الأحداث في سوريا إلى ما هي عليه، وما زال مطلوباً من الصديق أن يقدم لائحة بأعماله الإغاثية والإعلامية وحتى التي تدخل في باب الخطر الأمني من أجل قضية يؤمن بها، هي حق السوريين بالحرية والكرامة والعدالة.
قبل أيام سمعت أن شخصاً يوجه تهمة لذات الرجل بأنه كان عميلاً للأمن العسكري، والدليل أنه لم يشتم الأسد بشكل مباشر على الطريقة "العارية"، وكأن جواز العبور إلى النزاهة هو "الشتيمة".
يتكرر الحال، وتتكرر التّهم بحق الناس دون وازع أخلاقي، أو اعتبار لكرامات الناس، وكأن الثورة هي أن تخوّنهم وتتهمهم بأعراضهم، أو كأن الثورة فعل "شتيمة"، وهذا ما بات غير مفهوم، حتى أنه خرج من الإطار الفردي إلى السلوك الجماعي.
يكاد خطاب الكراهية يأتي على ما تبقى من خطوط تواصل بين السوريين بحدها الأدنى، إذ تتداخل نزعات الكراهية الشخصية مع محاولات البناء لبعض المؤسسات المجتمعية البسيطة خارج جسم النظام، فيما الأخير يمنع قسراً النقد وتقييم الأداء في مناطق سيطرته مستخدما قوى الأمن وحتى شخصيات اختارها لتمارس القمع الفكري بالوكالة كمدراء المؤسسات والإداريين والقيادين وصولا إلى الوزراء.
في الحالات التي شهدت انتشار خطاب الكراهية داخل الشعوب، وهو ما يحصل حتى اليوم بين الدولة الإسبانية وإقليم "كتالونيا" أو حتى في "اسكتلندا" و"إيرلندا الشمالية" مع المملكة البريطانية، يبدو تداخل التاريخ مع اللعبة السياسية مع الاقتصاد، لكن خطاب الكراهية هذا لا ينحدر إلى المستوى الفردي الرخيص، كما هو حاصل في الحالة السورية، ناهيك عن الفرق في وعي المجتمعات، وإسهاماتها في تطور الحياة العامة، وإنجازات العلوم والصناعة والتكنولوجيا، حتى يكاد البعض يصف الحال بأنه "خطاب حبّ وكراهية".
في المجتمع السوري يمكن تلمّس ظاهرة مختلفة تقوم على رفض الآخر لمصلحة الأنا الفردية المطلقة، كما أن عملية الهدم الضرورية في حالات التحوّل والثورات، لا تنطبق على الحالة السورية، إذ ليست هناك عملية بناء توازي عملية الهدم، ويزيد من صعوبة الوضع رسم حدود نفسية وماديّة في آن معاً، وتداخل مصالح القوى الخارجية ودعمها لبناء الجدران النفسية والمادية، فالتركي تحكم سياسته معادة الكورد المتعاطفين مع "ب.ك.ك"، والإيراني دفع بمقاتلين يحملون شعارات مذهبية، والروسي صرّح منذ البداية أنه لن يسمح بوصول رئيس سنّي إلى السلطة، والأمريكي عززّ من فكرة العشائر والقوميات والمذاهب مكررا ما فعله في العراق.
أما السوريون فيما بينهم فيتصارعون دون وعي، وغالباً ما يتطور خطاب الكراهية بينهم وفق تحولات مصالح القوى الكبرى، وهم غير قادرين في هذه المرحلة على إعادة تقييم المرحلة، والنظر في الظروف الموضوعية لقيام الدولة، لدرجة أنك تعتقد أنهم باتوا مجموعات ليس همّها مستقبل البلاد، بقدر تحقيق إلغاء الآخر حتى النهاية.
يعتقد الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم بأن الكراهية "شعور غير قابل للاختزال ولا يمكن تحديدها على الإطلاق، وغالبا ما يؤدي إلى تدمير الكاره والمكروه معا"، وهو ما يشهده حال السوريين.
يصف البعض لغة التخوين بأنها اغتيال معنوي، ولكنها حقيقة في الحالة السورية كثيرا ما تؤدي إلى الإلغاء والاغتيال الماديّ دون وعي لخطورة هذه الظاهرة.
لن تتحرر البلاد دون تحرر إرادة أبنائها، ولن يستطيع أبناؤها صياغة عقد مواطنة وتآلف دون الانتقال من فكرة الفرد إلى الجماعة، ومن فكرة الجماعة إلى المجتمع، ومن ثم إلى المواطنة.
ما تبقّى.. هؤلاء المبعثرون في المهاجر ودول النزوح الذين يموتون إن قطعت عنهم "فيسبوك" و"واتساب"، لا يمكن تركهم يسوقون الناس على غير هدىً، فكيف يديرُ شخص من أوروبا وهو مستلقٍ على "كنبة" أمام شاشة البث المباشر لـ "فيسبوك" 100 ألف كوردي وهو لا يعرف من الكوردية إلا اسم أبيه، وكيف ينظّر للثورة شخص لم يأكل رغيف خبز من تعب يديه، وإنجازه مظاهرتان شارك فيها دون أن يعرف معنى الثورة ولا إلى أين يجب أن تقود البلاد.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية