أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الردة العلوية.. المسكوت عنه في تاريخ الطائفة قبل "القيادة الحكيمة" (الجزء الثاني)

صورة التقطت عام 2005 في دمشق - جيتي

**لم تكن خطوة "جديد-الأسد" انقلابا على الطائفة وحدها، بل على مسلمات رسخت في ضمائر السوريين بوصفها "مقدسات".
**كانت عقوبة من حارب الانفصال لدى "أعداء الانفصال" أشد من عقوبته عند الانفصاليين أنفسهم!
**في نفس الفترة التي سرح فيها "هواش" تعسفيا، جرت ترقية "حافظ" تعسفيا

في الجزء الأول من هذا التقرير، تم التنويه بأن سيرة "آل هواش" ولاسيما العقيد المسرح "محمد عزيز هواش" تعطي دليلا على أن انقلاب الثلاثي (عمران، جديد، الأسد) ثم انقلاب حافظ على هذا الانقلاب، إنما كان ضد العلويين وليس لصالحهم، ولكن هذه النتيجة لاتمثل سوى جانبا من الحقيقة التي تقول وقائعها إن خطوة حافظ الأسد كانت أيضا انقلابا على مسائل جوهرية تجذرت في العقلية السورية منذ عقود، ولاسيما مسألتي "الوحدة العربية" و "قضية فلسطين"، اللتين رفعتا إلى درجات المسلمات بل و"المقدسات" التي يحرم المساس بها، ويصنف من يشكك بها ضمن زمرة "الخونة".

كانت حجة قادة الانقلابيين في طرد ابن طائفتهم "محمد هواش" يسارية القناع، باعتباره خارج "الطبقة الكادحة" التي ادعى انقلاب آذار أنه جاء لنصرتها، مستلا سيف "محاربة الطبقية"، وهكذا كان العلوي "الوجيه" من أولى ضحايا العلوي "المنبوذ"، ولكن هذه ليست كل القصة المحيطة بتسريح هذا الضابط.

ففي سيرة العقيد "محمد عزيز هواش" ما يكشف أن تسريحه جاء رسالة لكل من كانت له مساهمات في مسألتي "الوحدة" و"فلسطين"، مفادها أن زمانك ولى، وأن الطلاق بين النظرية والتطبيق قد بات مؤبدا لا تعقبه رجعة، وأن غاية "العمل" على مشروعي "الوحدة" و"تحرير فلسطين" سيكون عبر "الكلام".

*بين الدفع والقبض
تفيد المعلومات الخاصة بسيرة "محمد هواش" العسكرية عن توليه منصبا حساسا تمثل بقيادة "سرية المشاة" التي كانت ترابط على بحيرة طبريا، وذلك عقب تخرجه من الكلية العسكرية (انتسب لها عام 1949)، ومن موقعه هذا خاض "هواش" وأشرف على خوض مواجهات مع "العدو الصهيوني".

وإبان الوحدة مع مصر، انتدب "هواش" للعمل في القاهرة ككثير من الضباط السوريين، وعندما وقع الانفصال حاربه وخالف قادته في سوريا؛ ما جر عليه غضبهم فجمدوه في منصب "ملحق عسكري" في سفارة سوريا بقبرص، وكان حينها برتبة مقدم (وهي رتبة رفيعة للغاية وقتها، حيث كان بإمكان ضابط برتبة ملازم أول أو نقيب أن يأمر وينهي بل ويُنجح انقلابا أو يفشله).

وعلى اعتبار أن انقلاب 8 آذار رفع شعار كنس الانفصاليين وأولئك الذين تاجروا بقضية فلسطين، فقد كان من تحصيل الحاصل أن ينصف الانقلابيون كل من وقف ضد الانفصال وقاتل "العدو الصهيوني"، لكن العكس تماما حصل، لا بل إن الانقلابيين التدميريين شدوا الخناق على من يفترض أنهم كانوا مع الوحدة وتحرير فلسطين، وهذا ما شهد به حال "هواش" حيث كان مجمدا في وظيفة ملحق عسكري على عهد الانفصاليين، ثم غدا مطرودا من الجيش كله على عهد "أعداء الانفصاليين"!.. وهذا أيضا يكشف وجها آخر من وجوه انقلاب آذار، ويعطي صورة حقيقية عن مآرب اللاعبين الرئيسين فيه (وبالذات جديد والأسد)، أما بقية المشاركين فلم يكونوا سوى ديكور أو أدوات آنية سرعان ما تم التخلص منها.

ورغم أن "هواش" يلتقي مع حافظ في سنة ميلاده (1930) ويتقاربان في سنوات تخرجهما من الأكاديميات العسكرية، ويتساويان في تدرجهما بالرتب، وفي انتدابهما للعمل بمصر أيام الوحدة، غير أنهما يختلفان في أمور أخرى جعلتهما على طرفي نقيض في الغالب.. أمور دفع "هواش" فاتورتها تسريحا تعسفيا، بينما قبض حافظ الأسد أولى أثمانها ترفيعا خرافيا –وتعسفيا أيضا- طار به من رتبة مقدم إلى رتبة لواء مباشرة، ليتسلم مقاليد القوى الجوية ومنها إلى وزارة الدفاع ثم رئاسة البلاد خلال سنوات قليلة.

وهكذا، ومع إزاحة "هواش" تم استبعاد ممثل مهم عن إحدى أبرز الزعامات العلوية في الجيش.. هذا الجيش الذين كان أداة الانقلابيين الأولى وفريستهم في نفس الوقت، واستقر رأي صلاح جديد وحافظ الأسد على تحويره واحتكاره، موقنين أن من يملكه يملك كل شيء في سوريا، ومن لا يملكه لايملك أي شيء، حتى ولو كانت كل مناصب الرئاسة والوزارة في قبضته.

*استقلالية
هكذا أيضا، تحول العقيد "هواش" الذي كان يمكن أن يبقى حافظ الأسد ظلا له لو استمر في الجيش.. تحول هذا العقيد إلى مؤلف ركز جل اهتمامه على قضايا تاريخية تخص ماضي العلويين، وماضي سوريا، بعد أن حُرم بيد أبناء طائفته من المشاركة في كتابة مستقبل الطائفة والبلاد.

وقد سهل لـ"هواش" مهمة كتابته عن تاريخ العلويين بالذات أنه سليل عائلة زعماء لديها من الاطلاع على أحوال العلويين الكثير، كما إن وجوده في فرنسا وإتقانه للفرنسية شكلا حافزا آخر، أضيف إلى اطلاعه على قدر لابأس به من الأرشيف الفرنسي الخاص بسوريا.. هذا الأرشيف الضخم الذي كشف منه في السنوات الأخيرة وثيقتان على قدر كبير من الحساسية، ربما تلخصان كثيرا من تاريخ العلويين أيام الانتداب، وتعطيان فكرة عن مدى إخضاع العلوي رأيه وموقفه لمقياس السياسة ومعيار المصالح، دون أن يكون ملزما بما تراه "القيادة الحكيمة" أو يمليه "القائد الخالد"، هذا بغض النظر كلية عن مدى صواب أو خطأ آراء هذا الطرف أو ذاك، إذ نحن هنا فقط بصدد المقارنة بين استقلالية القرار العلوي ولو نسبيا قبل وصول الانقلابيين التدميريين، وحجره ومصادرته وختمه بختم طائفي عائلي (ضيق وصرف) بعد وصولهم.

فقد تبلورت استقلالية القرار العلوي قبل وصول "جديد- الأسد" بعدة عوامل، منها: التلون الكبير في الآراء داخل الطائفة، إلى حد توقيع الأب على وثيقة تعارض تماما وثيقة وقع عليها ابنه، وتغيير المواقف المبني على تغير الظروف والمعطيات، وهذا هو في المحصلة جوهر التعاطي السياسي بكل ما فيه من سلبيات وإيجابيات.

*بعد عقد
في عام 1926 وقع عدة زعماء في الكيان العلوي وثيقة صريحة عرفت اصطلاحا باسم "وثيقة الاستقلاليين" أو "الانفصاليين" أعربوا فيها عن رغبتهم الجامحة بالبقاء خارج حدود "سوريا المسلمة" بل ذهبوا أيعد من ذلك راجين رئيس الحكومة الفرنسية -حينها- "ليون بلوم" أن لايقر باستقلال السوريين لأنه سـ"يكون معناه عند تطبيقه استعباد الشعب العلوي وتعريض الأقليات لخطر الموت والفناء".
وقد وقّع هذا الخطاب المغرق في المفردات التحريضية 6 أشخاص، من بينهم عميد أسرة الأسد (سليمان)، وعزيز آغا الهواش (والد العقيد محمد الهواش)، الذي جاء اسمه حرفيا هكذا في مقدمة الموقعين.

وبعد نحو 10 سنوات، كان العلويون على موعد مع موقف مغاير بل ومناقض لما ورد في وثيقة 1926، يمكن وصفه حرفيا بـ"الردة"، حيث تحولوا من متوسلين لبقاء الانتداب الفرنسي وللحفاظ على أنفسهم خارج الكيان السوري.. إلى مطالبين بل وملحين على الارتباط بسوريا، وقد وقع على هذه العريضة التي اصطلح على تسميتها بوثيقة "الوحدويين" عشرات الأشخاص، من بينهم نحو 50 علويا يمثلون وجهاء وأعيان الطائفة، ومن ضمن هؤلاء "اسماعيل هواش" بوصفه زعيم عشيرة المتاورة، وهو والد "عزيز آغا هواش" الذي وقع من قبل على وثيقة "الانفصاليين".

إن هذا التبدل الاستثنائي والقوي يشكل في جوهره عين التعاطي السياسي، الذي عرف العلويون كأي جماعة أخرى من أين وكيف تؤكل كتفه، تماشيا مع تغير المعطيات والوقائع، بصرف النظر عن النوايا والخفايا التي تدخل في عالم الغيبيات، والتي يفترض أن يتوقف عندها سلطان البشر وتتضاءل كل معارفهم وعلومهم.

وعلى الطرف المقابل، أدرك سياسيو الداخل السوري، ومنهم من يوصفون بـ"آباء الاستقلال" لدورهم في استقلال سوريا.. أدركوا التغير العميق في تعاطي زعماء "الكيان العلوي" وتعاطوا معه على أنه موقف سياسي ينبغي استثماره لصالح جميع السوريين، وهذا ما وثقته وسائل إعلام كانت تنشط في تلك الفترة وتغطي التحولات التي تمر بها البلاد، والتي لم تقتصر على العلويين، بل اجتاحت معظم الطوائف والجماعات وصولا إلى الشخصيات.

*المدفع مكان السياسة
في تلك الفترة بالذات، وتحديدا ربيع 1936 زار دمشق "وفد زعماء البلاد العلوية" في دمشق، حيث لقي ترحيبا من "زعماء البلاد" الذين احتفلوا بـ"الوفد العلوي احتفالا عظيما"، حسب وصف "جريدة الشعب"، ولعل هذا الحدث كان المحرض والمشجع للعلويين على اتخاذ موقفهم الذي أعلنوه في وثيقة "الوحدويين" صيف نفس العام.

ووصفت الجريدة كيف احتفت دمشق بمقدم "وفد كبار زعماء البلاد العلوية.. احتفالا عظيما منقطع النظير"، وكيف حل الوفد ضيفا على كبار سياسي البلاد، من: هاشم الأتاسي، فارس الخوري، جميل مردم بك، شكري القوتلي، عفيف الصلح... وكيف خرجت المظاهرات لتحية الوفد، الذي كان من بين أعضائه "إسماعيل بك الهواش"، ونحن هنا نركز على كل حدث يشارك فيه أحد من عائلة "هواش" باعتبارنا اتخذنا سيرتهم مقياسا للتدليل على حال العلويين قبل انقلاب التدميريين وبعده.

لقد حسم العلويون في تلك الفترة موقفهم من الوحدة مع سوريا وأعلنوا رفضهم القطعي للانفصال عنها، وهي مسألة سياسية بحتة، تلقاها زعماء البلاد السورية -بمصطلح تلك الفترة- بقبول سياسي، وعلى هذا الأساس بالذات استطاع العلويون أن يحجزوا موطئ قدم راسخ ومؤثر في الجيش والشرطة والبرلمان وكل سلك قيادي، بعد أن رحلت فرنسا التي يفترض أنها كانت عراب تشكيل كيانهم (الدولة العلوية) وحمايتهم.. وبمعنى آخر فقد كانت سياسة العلويين قادرة على تحصينهم وتبويئهم أرفع المناصب دون أن يصطدموا بأي سوري من أي مكون، ودون أن يستعدوه أو يريقوا دمه أو يريق دمهم، ولكن الانقلاب الذي قاده "جديد الأسد" نسف كل تلك المكاسب وقلب طاولة السياسة حتى على الطائفة، مستعيضا عنها بالمدفع والدبابة، وبحقن بغيض يستدعي "مظلوميات" كانت وما زالت كأسا شرب منه معظم السوريين على اختلاف ألوانهم ومشاربهم.

وهكذا، وبناء على هذا الانقلاب، استحق "حافظ الأسد" لقب مدمر العلويين وليس منقذهم، إذ إن إخلاص "المخلّص" يقاس بقدرته على استرداد حق مسلوب، وتوفير ما يستطيع من مزايا لمن تصدى لإنقاذهم دون أن يؤلب عليهم محيطهم ويحول أصدقاءهم إلى خصوم وأعداء، وهذا خلاف ما قام به حافظ تماما، حيث أهدر المكاسب التي حققها العلويون بمساعيهم من طرف، وبطيب نفس غيرهم من السوريين وتعاملهم معهم سياسيا، من طرف آخر.. أهدرها لصالح رفع صورة العلوي الهمجي الذي يستحوذ على كل شيء بقوة القهر والجبر، ولا يكتفي بذلك بل يطارد كل من لايخضع له ويسايره، ويكتم أنفاسه إن اقتضى الأمر، وهذا ما كان وبالا حتى على الطائفة نفسها.

ولئن كان انقلاب "جديد- الأسد" قد اكتفى بطرد "العقيد محمد هواش" ثم نفيه، وسلك نفس المسلك مع غيره، فإنه لم يكن ليقبل من علويين آخرين سوى الرحيل النهائي عن الدنيا، لاسيما بعد تفرد الأسد، تماما كما فعل مع: محمد عمران ومنير الأحمد (ابن الشاعر بدوي الجبل) وغازي كنعان وسواهم، بل كما فعل في حافظ مع ولي نعمته "صلاح جديد"، حيث سجنه نحو ربع قرن ولم يفرج عنه إلا جثة هامدة.. وكل هذه وسواها جرائم لايمكن لأحد أن يقول إن الأقليات أو الأكثريات هي التي ارتكبتها، بل إنها بمثابة "ماركة مسجلة" لحافظ الأسد الذي قتل العلويين وهو يدعي "تخليصهم"، كما يكافح بشار اليوم للإجهاز عليهم كليا –وجوديا وسياسيا- وهو يردد على أسماعهم: إنما تشبثت بالكرسي لأحميكم وأمنع إبادتكم.


إيثار عبدالحق-زمان الوصل- خاص
(228)    هل أعجبتك المقالة (279)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي