إذا كانت وظيفة اللغة هي الافصاح عن الأفكار والوجدان، فإنها في السياسة تعني عكس هذه الحقيقة تماما، فغاية اللغة في المنطوق السياسي هي الإخفاء والتورية والبعد عن قول الحقائق وما يجول ففي الخاطر والوجدان بشكل صريح ،ولسوف نعود إلى هذه النقطة في سياق مقالتنا هذه.
حين كنت أستمع إلى البيان الختامي لمؤتمر سوتشي عبر المحطات الفضائية المختلفة أو بعد إعادة قرائته على مهل وبتأن تفرضهما طبيعة التحليل السياسي، لا أدري لماذا كانت تمر في بالي خطابات حافظ الأسد، ومن بعده بعض خطابات بشار الأسد، ومن ثم اهتديت إلى السبب الذي حفّز ذاكرتي على العودة إلى تلك الخطب الرنانة فالبيان الختامي لمؤتمرسوتشي تمت صياغته فعلا بعقل (بعثي) صرف، بل ومتمرس في ممارسة اختراع وإطلاق الشعارات البعثية التي اعتدنا عليها والتي تربينا أجيالا بعد أجيال على سماعها وتردادها وحفظها عن ظهر قلب بعد أن أصبحت مقررات دراسية في الثانويات والجامعات، وسأسوق إليكم بعض الأمثلة على أوجه التشابه في الصياغة وأحيانا في المفردات بين بعض البنود الواردة في بيان سوتشي مع بعض المقولات والخطب الصارة عن بشار الأسد، أو البيانات البعثية الصادرة عن القيادتين القطرية والقومية لحزب البعث.
في البند الأول لبيان سوتشي جاء التالي :
1. الاحترام والالتزام الكامل بسيادة واستقلال وسلامة أراضي ووحدة الجمهورية العربية السورية أرضاً وشعباً. ولا يجوز التنازل عن أي جزء من الأراضي الوطنية، ويبقى الشعب السوري متمسكاً باستعادة الجولان السوري المحتل بجميع الوسائل القانونية وفقاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.
والآن إليكم هذ المقولات لبشار الأسد حول الجولان والسيادة الوطنية مأخوذة من بعض خطبه وأحاديثه الإعلامية :
الأرض والسيادة هما قضية كرامة وطنية وقومية ولا يمكن، وغير مسموح لأحد أن يفرط بهما أو يمسهما".
ويقول في مناسبة أخرى:
"تحرير أراضينا المحتلة هو هدف أساسي وموقعه في المقدمة من سلم الأولويات الوطنية".
وهذا ما قاله والده حافظ الأسد في ختام أحد اجتماعاته مع الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك:
"إن الجولان أرض سورية وغير مرتبط بما يحاولون أن يركزوا عليه ويسمونه ماهية السلام وقد قال وزير الخارجية السوري في وقت سابق ما قاله الوفد السوري المفاوض أيضاً أننا نريد السلام العادل وفقاً لقرارات الأمم المتحدة وبما يؤمن الاستقرار في هذه المنطقة التي نعيش جميعنا فيها".
هذا فيما يتعلق بالبند الأول حول الجولان والسيادة الوطنية، أما فيما يتعلق بالشعب وحقوق الشعب، فتعود النبرة الخطابية ذاتها لتطل برأسها معلنة صياغتها على الطريقة البعثية العتيقة دون تغيير رغم مرور نصف قرن من الزمن، فيقول بيان سوتشي في بنده الثالث:
2. يُحدد الشعب السوري مستقبل بلاده بشكل مستقل وبطريقة ديمقراطية عبر الانتخابات، ويمتلك الحق الحصري في اختيار نظامه السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي بدون ضغوط خارجية أو تدخل، وذلك وفقاً لحقوق والتزامات سورية على الساحة الدولية.
إذا المسألة هنا بيد الشعب وهومنتهى الأرب وآخر المطاف في صناعة وصياغة القرارات، وسأسوق إليكم هنا فقرة من بيان القيادة القومية لحزب البعث بمناسبة ذكرى تأسيس الحزب الأخيرة والتي تؤكد على أن كل ما يجري في سوريا منذ الحركة التصحيحية، إنما كان تلبية لتطلعات الشعب:
"لقد جاءت الحركة التصحيحية المباركة لتحيي تطلعات الجماهير العربية فكانت ضرورة تاريخية عكست إرادة شعب وحاجة وطن".
لنستمر في هذه المقارنة، فهي ليست فقط متعبة وإنما مثيرة للقرف أيضا وتبعث على الغثيان، إذ يتبين أن صياغة البيان بعثية بامتياز، وفي أي ظرف؟؟!! في ظرف الحرب والقتال والدمار والموت، لغة بيان سوتشي تقول أن شييئا في سوريا لم يحدث وأن كل شيء سيتم إصلاحه وستعود وانتبهوا لكلمة (عودة) الواردة في البيان، حين يؤكد على عودة الرفاه والأمان، ما يعني أننا كنا نعيش حياة مرفهة وآمنة ثم جاءت الثورة وخربتها.
هذا السياق الذي وعدتكم بالعودة إليه ومناقشته في مقدمة المقال، حين تحدثنا عن اللغة والسياسة، ولنتفق أولا على أن المفهوم السائد هو أن السياسي البليغ لا يفصح عن طويته ويبتعد عن الإبلاغ قدر الإمكان، لذا أرى أنه من المفيد هنا التطرق أيضا لهذه الناحية التي حاول بيان سوتشي استغلالها، حين زجّ اللغة في زواريب السياسة وإعلامه السياسي حيث تختبئ المرارة خلف المعاني الجميلة الواردة في نص البيان، وحيث تضمر الكلمات عكس ما تفصح عنه، مثال على ذلك ما جاء في البند 12 من البيان: "نحن، ممثلي شعب سورية الأبيّ الذي تعرّض لمعاناة فظيعة، وكان شجاعاً بما فيه الكفاية لمحاربة الإرهاب الدولي، نعلن من هنا العزم على إعادة الرفاه والازدهار إلى أرض الوطن، وتأمين حياة كريمة ومريحة للجميع".
لا بد لي من الاعتراف بسحر البيان في هذه الفقرة، خاصة وأنها تؤكد على عودة الازدهار، وهذه الكلمة اعتدنا على سماعها ،وحين نعتاد سماع لفظ ما فإننا نميل إلى عدم التدقيق في معناه ، أما الفقرة الأولى من البند ذاته فهي الأخطر حيث تؤكد على مقولة أن الشعب السوري عانى من الإرهاب الدولي أي الإرهاب المدعوم دوليا، وبذلك يكون النظام الذي قتل شعبه وهجره ودمر البيوت على رؤوس أصحابه، خارج تهمة الإرهاب، فتلك التهمة وفقا لهذا الوصف محصورة حكما بالفصائل العسكرية غير التابعة للنظام، أما عصابات حزب الله وعصاب الحسين والميليشيات الافغانية والعراقية واللبنانية، فهي ليست إرهابية وهي بريئة من هذا التصنيف.
...يتبع.
*فؤاد حميرة - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية