لم تكتف الحرب وأربابها بتدمير الحجر، وزهق الأرواح، بل قد تكون الأخيرة أهون الشرور، فكل يعتبر قتلاه في خانة الشهداء، وهذا ما يمنحهم بعض سكينة تتنزل عليهم بفعل ما يعتقدون به.
لكن هذه الحرب تفعل فعلها في مكان ما من الجسد، وكأنها دواء يؤخذ لعلاج داء مستعصٍ، فيكتشف المريض بعد قليل، وربما بعد وقت طويل أن الدواء تسبب بداء نال من عضو آخر في جسده، داء لا يقل فتكا عن الأول الذي في سبيله تجرع مرارة الدواء.
الناس تغيرت أم أن المحنة أزاحت طبقة غبار تراكمت عبر سنين مشكّلة قناعاً أخفى حقيقتهم؟ هو تساؤل دائم الحضور عند الكلام عن أي سلوك مستغرب من قبل شخص أو جماعة، سواء أكان حديثا جدياً أم عابراً.
نسأل من تبقى من أهل وأصدقاء في سوريا عن أحوالهم، فيمتد الحديث أحيانا ليطال أشخاصاً أو حدثاً ضمن دائرة المعارف، فتروى أحاديث وأحاديث، لو أنك رأيتها قبل هذه الحرب في منامك لقلت "أضغاث أحلام"، إذ تسمع عن قصص تجد نفسك عاجزاً عن تفسيرها، وتكتفي بإطلاق كلمات الاستغراب، معقول؟ متأكد؟ لتختتمها بعبارة "غريب"، وربما "عجيب"، ليأتيك تبرير من محدثك لا يقل غرابة عن الحادثة نفسها التي أثارت استغرابك: أنتم، (اللاجئون في مشارق الأرض ومغاربها) لا تعرفون ما حدث خلال هذه السنين! لم يبقَ شيء كما هو.
تتحدث مع صديق جمعتكم الأيام في مدينة ما، وتسأله باشتياق، على سبيل المثال كيف هي درعا أو حلب أو الشام، فيأتيك الجواب مكثفا بالألم، "الشام اللي بتعرفها انساها..راحت".
"لا تعرفون" "اللي بتعرفها"! يبدو أن المشكلة في المعرفة، وهي مفردات تذكرني بشخص التقيته بعد سنين في اسطنبول، وعندما سألته، كيف الحال؟ أجاب بـ "ما بعرف، فعلا ما بعرف"، نظرت إليه باستغراب، وكنت للمرة الأولى أسمع مثل هذا الجواب الذي أصبح فيما بعد الأكثر حضورا لأسئلة "كيف الحال وأخواتها".
المشهد الاستغرابي، لم ينتهِ بعد، فإن زل لسان محدثك وسألك عن مجتمعات اللجوء، وبعد أن تنتهي من مقدمات الحديث عن المجتمعات الأوروبية، وهي لازمة لا بد منها، يأخذ الحديث مجراه إلى حيثيات العلاقات الاجتماعية بين اللاجئين أنفسهم أو بين اللاجئين وبين الآخرين، فتروي له قصة أو قصتين، فيبادرك إن كنت تتواصل معه كتابة عبر وسائل التواصل بوجوه مستغربة وأحيانا ضاحكة وأخرى باكية، وبأسطر من علامات التعجب مرة، والاستفهام مرة.
أما إن كنت تحدثه صوتيا، فسيكرر كلماتك نفسها، وربما مع اختلاف بالتقديم والتأخير وبعض المحسنات، "أكيد هالحكي!" "لا يارجل معقول!!"، وبعد أن تؤكد له ما رويت له، من الطبيعي أن يسأل "ليش" وحتى لا تكرر جوابه عن عدم معرفته بالناس وأحوالها وأطوارها، يصبح الجواب الأدق "ما بعرف".
وإن كان نصف المعرفة، أو نصف العلم لا أدري، كما جاء في الأثر، فإن نصفي حياة السوريين هي في خانة "لا أعرف".
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية