في شارع "المنصور" وسط مدينة الرقة وعلى مقربة من متحفها الأثري تقع مكتبة "بور سعيد" التي كانت جزءاً أثيراً من سيرة المدينة، وشاهداً حيا على التحولات التي شهدتها.
واستقطبت المكتبة مختلف شرائح المجتمع والعشرات من مثقفيه وأدبائه وباحثيه قبل أن يحرقها تنظيم "الدولة" أثناء استيلائه على الرقة، لتغدو أثراً بعد عين ويُطوى جانب هام من الحياة الثقافية في المدينة طوال أكثر من ستة عقود.
تأسست المكتبة المعروفة أيضاً باسم "مكتبة الخابور" عام 1957 وكان صاحبها ومؤسسها الحاج "أحمد الخابور" الملقب أبو زهرة -مواليد -1941 رجلاً أمياً لا يعرف القراءة والكتابة، ولكن حبه وشغفه للقراءة والثقافة دفعاه للتعلم على يد الشيخ (الملا) "رمضان القشة" الملقب بالحافظ.
ويقول ابن الحاج أحمد "مهند الخابور" لـ"زمان الوصل" إن والده تعلم القرآن أيضاً على يد "الملا محمد رشيد الخوجة" و"الملا صالح"، وعند افتتاحه للمكتبة لم يكن قد تجاوز 16 من عمره، وأطلق على مكتبته اسم "بورسعيد" تيمناً بالمدينة التي تعرضت للعدوان الثلاثي على مصر، وظل يعمل بها طوال تلك الفترة الطويلة، إلى حين دخول تنظيم "الدولة"، حيث تم إحراقها عنوة بسبب اعتبار الكتب فيها نوعاً من الكفر والضلال، حسب اعتقادهم.

وأشار "الخابور" إلى أن والده وضع نصب عينيه هدفاً واحداً وهو نشر الثقافة في المدينة، وثابر على ذلك إلى اليوم الذي أحرقت فيه مكتبته، وكان بعض الرواد في كثير من الأحيان -كما يؤكد- يستعيرون الكتب بلا أجر، وبعضهم يجلس في المكتبة ليقرأ مايحلو له من الكتب، دون أن يغيب فنجان القهوة العربية عن أجواء المكان. ولفت "الخابور" إلى أن والده كان يجالس مثقفي المدينة وأدبائها ويناقشهم ويتعرف إلى أفكارهم، علاوة على أن المكتبة التي كانت تعج بمئات الكتب في مختلف ألوان الثقافة، استقطبت كل شرائح المجتمع من قضاة ومهندسين ووجهاء.
وأكد أن الأديب الطبيب "عبد السلام العجيلي" أحد رموز الثقافة السورية خلال أكثر من 60 عاماً على رأس مرتادي المكتبة يوميا حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
ودوّن "العجيلي" في مقدمة أحد كتبه "حين أكون في الرقّة، هناك مكانان إنْ لم أزرهما يوميًا، لا أعتبر أنّني عشت يومًا طبيعيًّا: هما مكتبة بورسعيد وجسر الرقّة القديم."، كما نقل "الخابور".
ولفت "الخابور" إلى أن والده الذي أطلق عليه أهل الرقة لقب "صديقُ الثقافة" اتخذ لمكتبته قاعدة ذهبية تقول: "اقرأ الكتاب وإن لم يعجبك فلا تدفع ثمنه"، وهذا يدل على حرصه في اختيار الكتب الهامة، وكانت لديه معرفة فطرية بأذواق رواد المكتبة وميولهم واهتماماتهم، وكانت أفكار المرتادين هي من تختار الكتب.
بعد سيطرة تنظيم "الدولة" على الرقة ربيع عام 2013 بقي العم "أبو زهرة" يمارس عمله فيها بهدوئه ورزانته المعتادين.

وأوضح ابنه "مهند" أن التنظيم بدأ البحث "عن قرابين يبطش بها ليدب الخوف والرعب في نفوس المدنيين من أهل المدينة"، مضيفاً أن العائلة حاولت ثني والده عن عمله في المكتبة خشية عليه، ولكنه كان يرفض مجرد الكلام في هذا الأمر لأنها كانت جزءاً من كيانه وأسلوب حياة، وليست مجرد مصدر عيش.
وروى محدثنا أن تنظيم "الدولة" وتماشياً مع سياسة مصادرة الحرية قرر حرق المكتبة لأنها تحوي "كتب شرك وكفر، وتمنع دخول الرحمن"، حسب تفكير عناصره.
وأضاف محدثنا أنه أراد آنذاك إبعاد والده عن دائرة الخطر والتضحية بالمكتبة وحتى والده -كما يقول- تعامل آنذاك مع الأمر برباطة جأش ولا مبالاة قائلاً لهم "أنا ذاهب للصلاة في المسجد وافعلوا ما تريدون بالمكتبة.
وأردف محدثنا أنه أخرج مع عدد من الأصدقاء وعناصر من التنظيم الكتب التي كانت بالمئات إلى الجدار الغربي لمتحف الرقة وتم جمعها قبل حرقها، وبعد أن خسر الحاج "أحمد الخابور" مكتبته التي بناها طوال ستة عقود من حياته، ومع اشتداد وطأة المعارك نزح إلى ريف الرقة وعاد بعد أسابيع ليجد أن طائرات التحالف قد دمرت المكتبة بأكملها وصار منزله المجاور لها أطلالاً كما هي أغلب بيوت المدينة ومعالمها المدمرة.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية