أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

قمران وزيتونة / الفيلم الذي يضيء شيئا من عتمة القلب بأقماره /


عودنا المخرج المبدع عبد اللطيف عبد الحميد على المفاجآت المخلوقة من العدم بهدوء هو أكبر من أي مفاجأة وبساطة أبلغ من الصمت في ملكوت المقدس. فما من شيء أكثر وضوحا من القهر الإنساني الذي يصنعه الإنسان بيديه، وليس أصعب منه سوى القهر الذي يعانيه "أخيل" لأن أمه غفلت عن تغطيس كاحله بالماء المقدس، أو الذي يعانيه عادل من جهل أمه وعجز والده الذي أقعدته الحرب. فلكل بطل من أبطال عبد اللطيف نقطة ضعفه التي تتحول إلى مصدر ابتلاء ومسرح لممارسة الآخر ساديته أو جهله. وهذا ما نراه لدى الصبي عادل في" قمران وزيتونه" أو في عواء بنات أوى الذي يقض مضجع بطله في " ليالي ابن آوى" أو الحكة المتحكمة بكعب قدم البطل في "رسائل شفهية".
إنها نقطة الضعف الموجودة في كل واحد منا والتي يدخل منها الآخر إلى عالمنا الداخلي بسوء نية أو "حسن جهل" ليفتت البناء الداخلي للفرد والمجتمع عبر عذابات صغيرة سرعان ما تكبر إلى الدرجة التي لا يعود معها بإمكان الذين يحبونا ونحبهم إصلاح الخراب الذي نتج عنها. فنصبح أمام ما نحن فيه من تشوهات تتجاوز الفرد إلى الأسرة والمجتمع. فما يخلقه "علاج" الأم لما ترى فيه كارثة أخرى تضاف إلى عالمها المليء بالقهر والحرمان ـ وهو استحكام عادة مص الإصبع عند ابنها عادل ـ يخلق سلسلة من المواقف التي تشوه الابن وتقضي على مستقبله وتعرضه لأكثر من موقف كان يمكن أن يفقد فيه حياته لولا ما يجده عند صديقه من حنان ممزوج بالحب والقسوة.
بصيص الأمل الوحيد المتبقي في عالم عبد اللطيف هو ذاك الجذر الصغير لبقايا حب إنساني لم يشوهه البؤس عند هؤلاء الصغار الذين يصرون على الاحتفاظ بجذوة الحب وبذرته الصغيرة الباقية في القلوب الصغيرة بعدما ماتت في قلوب كبيرة قتلها الفقر والحرمان المادي والعاطفي، كما في حالة الأم في " قمران وزيتونة". ولذلك يغامر الصبي بحياته غير مبال بالأخطار التي يمكن أن يواجهها في طريق عودته هاربا من المدينة إلى القرية ليكتب رسالته إلى صديقه عادل وأخته على الأرض، مستخدما الحجارة الصغيرة، كي يلحقا به إلى المكان الذي كانوا يهربون إليه من قسوة معلم المدرسة وجهل الأهل، وليسمعا عن بعد موسيقى النشيد الوطني الذي يعزفه أحد تلامذة مدرسة القرية على الناي بعدما حرما من سماعه عن قرب.
يبدو عبد الحميد من خلال الأعمال الثلاثة مسكونا بالماضي، وتحديدا فترة الستينيات من القرن العشرين، تلك الفترة التي شهدت انتقال قسم كبير من الريف السوري من قلب القرون الوسطى إلى تخوم القرن العشرين بشكل مفاجئ لتضع الفرد على مفترق طرق يؤدي إلى الكثير من الآمال والوعود والقليل من المتحقق والمنجز. لذلك يبدو طبيعيا أن نشاهد الشاب، الذي يأتي رجال الشرطة لإبلاغه بالتوجه إلى خدمة العلم قبيل حرب يونيو/ حزيران( 1967 ( مباشرة، في اللحظة التي يخضع فيها لأشد أنواع الذل والمهانة على يد والده ـ الابن السابق للمؤسسة العسكرية. حين يصل الشرطيان يكون الابن، الذي سيتوجه حالا للدفاع عن الوطن، مطمورا بالتراب حتى ذقنه والذباب يتجمع على مربى المشمش الذي وضع على رأسه الحليق إمعانا في إذلاله وتشديد العقوبة التي فرضها والده.
وتبقى الصورة قاتمة لولا جمال المشهد الطبيعي الذي يعطي البصر حرية الرحيل حتى الأفق ويمنح الصوت فضاء بسعة الكون ليبقى الولد المقهور عادل قادرا على ملاحقة حلمه في أن يصبح ذات يوم " قمرا" يضيء ليل الظلام الذي يحيط به وبمن حوله في عز الظهيرة.


محمد جمول = نشر في صحيفة أوان الكويتية
(129)    هل أعجبتك المقالة (150)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي