المكان شبه خال، بضعة أشخاص، ومصور تلفزيوني راح يعد بعض اللقطات فيما يبدو أنه تقرير لإحدى القنوات التلفزيونية، والعرض شارف على البداية، لكن سرعان ما اكتظ مسرح الحمراء في دمشق بجمهور واسع من الفنانين والإعلاميين ومحبي المسرح، والمناسبة هي عرض مسرحية «أبوحيان التوحيدي» للمخرج والفنان القطري حمد الرميحي وذلك في إطار مهرجان دمشق المسرحي الرابع عشر.
يتحدث العرض عن حياة أبي حيان التوحيدي (علي بن محمد بن العباس)، أحد أهم أدباء القرن الرابع الهجري، بما فيها من اضطهاد وحرمان ويأس، حيث اتهمه القادحون بالزندقة والكفر، في حين اعتبره البعض شيخ الصوفية.
لكن حمد الرميحي يتناول حياة أبي حيان من منظور العصر الحالي عبر إسقاطات بدت واضحة خلال العرض، أراد منها المخرج إبراز معاناة المثقف العربي والعلاقة الشائكة بينه وبين السلطة، فنشاهد أبا حيان وقد تخلى عنه الجميع في بلده العراق، يعيش وحيدا منبوذا، مهددا من قِبَل حكامها الطغاة.
يوصي أبوحيان (مثل دوره عزيز خيون) أن يدفن في بغداد لكن حاكمها يرفض ويتهم أبا حيان بالكفر والإلحاد، فيطلب أبوحيان أن يدفن في مصر لأن فيها تيجاني يقدر العلم والعلماء، إلا أن حاكم مصر يأمر بسجنه ليقول القضاء كلمته، يفر «التوحيدي» هاربا إلى أرض الشام طالبا دفنه تحت شجرة زيتون، لكنه يجد الشام في ظلام دامس، وقد نبذه أهلها قائلين: لا حاجة لنا بفلسفتك فهي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ثم نرى زوجة أبي حيان «ماء العينين» (مثلت دورها لارا حتي) وأمه (فوزية عارف) وهما ترافقانه في رحلته تلك، وتحاول زوجته إقناعه بالعودة إلى العراق، لكنه لا يوافقها، فتعود وحدها إلى بغداد، حيث يطلب الحاكم يدها، إلا أنها ترفض ويكون مصيرها التعذيب والحرق، في مشهد يرمز بشكل أو بآخر إلى بغداد تلك العاصمة العربية الجريحة التي تئن تحت وطأة الظلم والاحتلال الأميركي.
ثم يواجه أبوحيان المصير نفسه في تونس، حيث منعه البربر من دخولها، إلى أن قصد الخليج فوجدها قد تغيرت، وحلت ناطحات السحاب مكان الواحات الجميلة.
وأخيرا قصد أبوحيان الصحراء مع خمسين جملا محملة بالكتب، وهو يقول: «أمة لا تقرأ لا تستحق كتبي»، وعندما سمع بذلك الحكام أرسلوا له مجموعة من الفرسان لقتله، إلا أنهم وجدوه ورعا مؤمنا، فحملوه إلى بغداد ليُدفن فيها، لكن حاكمها الجديد رفض دفنه أيضا، إلى أن يئس «التوحيدي» وطلب منهم حرق جثته لتنهشها الطيور. مطلقا صرخته «ماتوا ونخيل العراق أبدا».
استطاع الممثل علي ميرزا أن يجسد روح الرفض للمثقف العربي في الشام والمغرب والخليج وبقية البلدان، مستخدما في كل مشهد لغة أهل البلاد التي يقصدها أبوحيان بحثا عن التقدير والاحترام.
تترافق هذه المشاهد مع لوحات فنية راقصة قدمتها فرقة «رماد» السورية للمسرح الراقص طيلة زمن العرض، على أنغام الموسيقى المباشرة التي كانت تعزفها فرقة قطرية حجزت لها مكانا في إحدى زوايا خشبة المسرح.
وفي نهاية العرض طلب المخرج من الجمهور عدم الخروج للاستماع إلى أغنية مهداة إلى العراق والفنان الراحل «لاوند هاجو» مدير فرقة رماد.
وبُعَيد انتهاء المسرحية قال المخرج الرميحي وقد ترقرقت الدموع في عينيه لـ «العرب»: يمثل عرض أبوحيان التوحيدي «حمد الرميحي» وكل المثقفين العرب الذين يعانون السلطة الجائرة، هذا واقعنا ويجب أن نواجهه، لنصل إلى الأفضل والأجمل، كما يمثل معاناة المثقف بشكل عام في بعده الإنساني والعالمي، فالمثقف في العالم ما زال يعيش صراعا مع السلطة.
وأكمل الرميحي: أعتقد أن الجمهور شاهد تجربة مختلفة عن التجارب الخليجية التي قدمت في مهرجانات دمشق، إضافة إلى حضور النخب العربية والتمازج العربي والقضية المطروحة في هذا النص الجميل، وهذا الشيء يدفعنا إلى مواصلة البحث في نصوص درامية تهم المواطن العربي وتحفزه، إضافة إلى الشكل الجميل المقدم في العرض، والموسيقى الجميلة للملحن القطري إسماعيل عيسى.
وحول مشاركته في مهرجان دمشق أضاف الرميحي: هذه ثاني مشاركة لي في مهرجان دمشق المسرحي، وأنا سعيد بحضوري بعد تطور التجربة ونضوجها، أشكر دمشق على احتضانها لنا، وأهدي العمل إلى الشعب السوري، متمنيا أن يجول بعرضه على بقية الدول العربية مستقبلا.
وحول دورها في العرض قالت الفنانة اللبنانية «لارا حتي»: تتضمن المسرحية رسائل عدَّة، بمجرد أن يكون فيها ممثلون من سوريا والعراق واليمن والمغرب والجزائر، فهي تحمل رسالة عربية أكثر من كونها عراقية، حيث تتحدث عن صراع المثقف مع السلطة وعن الظلم والاغتصاب والقهر والاستبداد والقتل والدمار، أنا دوري ماء الحياة يرمز إلى بغداد المذبوحة المغتصبة، وهنا عندما نجري إسقاطات على الواقع نتكلم عن البلدان العربية لأن الجرح واحد، وبالنتيجة الفن والمسرح لا يعطيان الحلول بل يطرحان الأسئلة، وبمجرد أن يطرحا السؤال ويلقيا الضوء تنبهان العالم إلى واقعنا.
وأضافت حتي: من خلال هذا الاجتماع العربي استطعنا أن نقول إن الفن يوحد، وإن شاء الله السياسة توحد، ونتمنى أن تتكرر التجربة التي تضم فنانين من جميع الدول، وهو ثاني عمل لي مع المخرج حمد الرميحي، وكنت قد عملت معه سابقا «قصة حب طبل وطارة».
وأكملت: أنا سعيدة بهذا الجمهور المذهل، وحقيقة فوجئت بالمهرجان ومستوى الأعمال المشاركة.
يشار إلى أن عرض «أبوحيان التوحيدي» من تأليف وإخراج الفنان حمد الرميحي، وبطولة الفنان عزيز خيون، علي ميرزا محمود، صفوت الغشم، أحمد قاسم السعدي، إبراهيم عبدالرحيم، فيصل الدوسري، لارا حتي، فوزية عارف، سلمان المري.
كانت مسرحية «أبوحيان التوحيدي» قد عُرضت خلال مهرجان الدوحة الثقافي وفي الأردن والجزائر.
يُذكر أن مهرجان دمشق المسرحي افتتح يوم الجمعة الماضي ويستمر حتى العشرين من الشهر الجاري. ويتضمن المهرجان حوالي 40 عرضا مسرحيا، 20 عرضا من مصر ولبنان وقطر والإمارات والعراق وليبيا والبحرين والكويت والأردن وتونس وعمان والسعودية وفلسطين و6 عروض أجنبية من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وكوبا وقبرص، فيما تقدم سوريا 19 عرضاً مسرحياً.
كان المهرجان قد كرم في افتتاحه نخبة من الفنانين السوريين والعرب والعالميين هم: غانم السليطي من قطر، والسوري الراحل محمود جبر، ومروان قنوع ورياض عصمت، والمخرجة التونسية ظهيرة بن عمار، والكاتب المصري محفوظ عبدالرحمن، والمسرحي المغربي الطيب الصديقي، وجيرار أستور من فرنسا مدير مسرح جان فيلار، ومن إسبانيا خوسي مونيليون مدير المعهد الدولي للمسرح المتوسطي وآخرون.
وتقدَّم عروض المهرجان على مسارح القباني والحمراء والمسرح الإيطالي في المعهد العالي للفنون المسرحية، ومسرح ملجأ القزازين، إضافة إلى مسارح دار الأوبرا للثقافة والفنون.
«أبوحيان التوحيدي» مسرحية عربية بنكهة قطرية تبكي الحضور في دمشق
عمر عبد اللطيف - العرب
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية