أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

القوة الناعمة.. حسين الزعبي*

أرشيف

في منتصف العقد الماضي بلغ الغزو الدرامي التركي للمشاهد العربي ذروته، مستنداً على اللهجة السورية التي كانت قد رسخت في الذاكرة من خلال مسلسلات حققت نجاحات جعلتها تتفوق على الدراما المصرية العريقة.

أسباب نجاح الدراما التركية أشبعت فحصاً وتمحيصاً وتحليلاً، ولا ضير إن مررنا سريعاً عليها، وأبرزها التقارب في الإشكاليات المجتمعية والتشابه في العادات، لاسيما النسائية منها، والجمال النسائي والذكوري لدى الممثلين، وتوظيف الطبيعة الجميلة والأزياء والأثاث، وكلها عوامل جاذبة للمرأة العربية وهي الشريحة الأكثر مشاهدة للمسلسلات بحكم وجودها لساعات طويلة في البيت مقارنة بالرجل، يضاف إليها أسباب أخرى تتعلق بطرح موضوعات جديدة نسبيا بعيدة عن "النكد" و"الفقر" و"الأوساخ" البصرية العربية، وهذا توصيف وليس تقييم.

إلى جانب هذه الأمور التي تبدو سطحية، كانت هناك أسباب أخرى، ربما هي نفسها نتائج، ففي تلك الفترة كانت تركيا قد بدأت تأخذ شكل "النموذج" الناهض الذي يمكن الاقتداء به، وكثر في حينه استخدام عبارة "النموذج التركي" وكانت محل أخذ ورد ونقاشات سواء في السياسة أم في الاقتصاد.

صانع السياسة التركية لم يغب عنه هذه المسألة، ولم يفوت على نفسه بالإضافة للفوائد الاقتصادية الناتجة عن صناعة الدراما ودورها في الترويج السياحي، لم يفوت فرصة تمرير الرسائل السياسية وخلق "حاضنة مجتمعية" للنموذج التركي خارج الحدود السياسية للبلاد، فبعد المسلسلات الرومانسية وأشهرها "سنوات الضياع" الذي شاهد حلقته الأخيرة 85 مليون عربي وذلك بحسب "ام بي سي"، تم إدخال السياسة بشكل واضح من خلال مسلسل "وادي الذئاب" الذي استثمر في السياسة الداخلية التركية مثلما استثمر في القضايا الإقليمية، ومنها القضية الفلسطينية ومسألة الاحتلال الأمريكي للعراق من دون أن ينسى القضية القبرصية، ورغم ما تسبب به هذا العمل من إشكاليات سياسية للدولة التركية، إلا أنه حقق ما أريد له أن يحقق، ثم جاء مؤخرا "أرطغرل" الذي سلب عقول متابعيه العرب الذين يبحثون، ولو دراميا، عن مخلص مما هم فيه من امتهان، يمارسه عليهم قادتهم واجهزتهم القمعية، قبل أن تمارسه قوى خارجية.

خلال الأسبوع الفائت، وفي زحمة أخبار السياسة والقصف والجوع والموت، برزت ثلاثة أخبار فنية، الأول إعلان "سيئ الصيت" المخرج نجدة أنزور الانتهاء، وبزمن قياسي، من إنجاز فيلم سينمائي باللغة الإنكليزية، فكرته الرئيسة تبرئة نظام الأسد من جرائم الكيماوي وإلصاقها بـ"الإرهابيين"، أما الخبر الثاني فهو دور المخرجة المصرية "كاملة أبو ذكرى" برفض منح فيلم "مطر حمص" جائزة مهرجان قرطاج، والفيلم طبعا يقدم رواية مكذوبة جملة وتفصيلا لما دار في تلك المدينة من أحداث، أما الخبر الثالث، وهو يعيدنا إلى تركيا، فهو إعلانها عن إنتاج فيلم سينمائي عنوانه "درعا" وبحسب المنتج "خالص جاهد قوروتلو" فإن الفيلم يهدف إلى توضيح أسباب اندلاع الثورة للرأي العام، ويحكي قصة الثورة السورية.

الحديث عن الدراما والسينما والفن ضمن مشهد الخراب يبدو ضرباً من ضروب الترف، لكن هذا القطاع الذي يمكن وصفه بـ"القوة الناعمة" الأكثر ديمومة، لا يقل أهمية عن الرصاص والقذائف والمماحكات السياسية إن لم يكن في بعض الأوقات أكثر أهمية.

السوريون مثلما ابتلوا بنظام مجرم، ومعارضة لم تقل عنه إجراما بحق نفسها، لم تمنحهم الحياة من يحمل على عاتقه راية هذا القطاع، لا من أولئك الذين يصنفون جزافا "برجوازية" تقليدية ولا حتى ممن يقال عنهم "محدثي نعمة".. بينما خصمهم لم يوفر فرصة الاستثمار حتى بالشاذين جنسيا في سبيل هدفه.

*من كتاب "زمان الوصل"
(186)    هل أعجبتك المقالة (174)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي