"حكمت عليك المحكمة الإلهيّة بالقتل". هكذا يصرخ السجّان في المستشفى العسكريّ 601 المعروف أيضاً باسم "يوسف العظمة"، في اليوم الذي يصدر فيه الحكم على المعتقلين، وبعدها تُنفّذ الأحكام بطرق مختلفة"، هذا هو الموضوع الذي تدور حوله رواية "601 -المحاكمة الإلهية" للكاتب والصحفي السوري "جابر بكر" وهو نصّ روائيّ موزّع على ثلاثة فصول، يستند إلى وثيقة حقوقيّة استمرّ رصدها أكثر من ثلاث سنوات، سجّل فيها حالات ناجين دخلوا إلى المستشفى سيئ الصيت وخرجوا منه من نفق ضيق بأعجوبة.

وعاش "بكر" وهو مواليد بلدة "جيرود" القلمونية 1983 تجربة اعتقال مبكرة امتدت بين عامي 2002-2004 بعد اتهامه بالانتساب إلى محفل ماسوني عالمي حينما كان لا يزال طالباً في معهد الهندسة الميكانيكية بجامعة دمشق ليتنقل بين عدة فروع أمنية من "فرغ فلسطين 235" مروراً بفرع "المخابرات العسكرية 248" وصولاً إلى محكمة أمن الدولة التي قضت باتهامه بـ"وهن نفسية الأمة" وهي التهمة التي وجهت لغالبية السوريين ممن يتم اعتقالهم.
وروى بكر لـ"زمان الوصل" أن فترة بقائه في السجن كانت عاملاً مهماً في تغيير مجرى حياته وتفكيره، إذ كان منطوياً على نفسه ولا يؤثر التواصل مع الآخرين، بينما تعلم في السجن –كما يقول- التأقلم مع الظروف الصعبة، كما تعلم في السجن مبادئ العمل الصحفي، وبدأ اهتمامه بالكتابة هناك وخصوصاً في سجن "صيدنايا" الذي أمضى فيه فترة طويلة من تجربة اعتقاله.
وسبق أن انفردت "زمان الوصل" بنشر مواد تخص "جريمة العصر"، ولاحقت بعض مجرميها بالاسم، فضلا عن التركيز على ما سربه "قيصر" من صور توثق الجريمة بأكثر من 55 ألف لقطة لنحو 11 ألف ضحية في المشفى نفسه.
وبعد خروجه من السجن ولجوئه إلى أوروبا فيما بعد بدأ "بكر" بتوثيق كل ماله علاقة بمجال حقوق الإنسان بالفيديو صوتاً وصورة بهدف إنجاز أفلام وثائقية عن المعتقلات والمعتقلين وخصوصاً أن أحداً لم يلتفت لتجربة اعتقاله المبكرة نسبياً مع عشرات الشبان السوريين.
وكان لديه -كما يقول- خوف من أن تمر تجارب الاعتقالات بعد اندلاع الثورة بنفس الظروف السابقة، ويُهمل ويُرمى المعتقلون في زوايا النسيان دون أن يهتم بهم أحد.
وروى مؤلف الكتاب الذي صدر مؤخراً عن دار "الأهلية" في العاصمة الأردنية عمان أنه التقى بأشخاص كانوا معتقلين في المخابرات الجوية والعسكرية وأمن الدولة وأحدهم الذي اختار "زيد" اسماً مستعاراً له كان معتقلاً بفرع المخابرات الجوية وأُصيب إصابة بالغة في قدمه نُقل على إثرها إلى مستشفى "601"، وكانت شهادته صادمة ومروّعة عما كان يجري في المستشفى فترة اعتقاله، وهي الفترة التي سبقت خروج صور سيزر (القيصر) للمعتقلين الذين قتلوا تحت التعذيب وتم تصويرهم في كراج المشفى ذاته.
وبطبيعة فضوله الصحفي اهتم "بكر" بهذه الشهادات وعمل على تدوينها كما بدأ بالبحث عن شهادات أخرى والتقى أناساً يعرفون معلومات أخرى كما اطلع -كما يقول- على توثيقات حقوق الإنسان من سورية وعربية وغيرها.
واكتشف أن مستشفى "601" لم يحظ بالاهتمام اللازم على عكس سجن "صيدنايا" وأماكن اعتقال أخرى في سوريا.
وكشف أنه بذل جهداً كبيراً حتى نال ثقة بطل روايته "زيد" وبعد لقاءات طويلة ومشاوير وجلسات عفوية ما بين ألمانيا وهولندا استطاع أن يكسر الحاجز النفسي معه ويجعله يتحدث باستفاضة أكثر ويحكي عن تجربة اعتقاله في مستشفى "601" التي امتدت 45 يوماً، وهي فترة طويلة قياساً لعدد القتلى اليوميين وهم بالحد الأوسط ما بين 4 و12 شخصاً، عدا عمن يموتون بشكل طبيعي نتيجة إصاباتهم.
ولفت "بكر" الذي يعيش في فرنسا حالياً إلى أنه لم يشأ أن تكون هذه التوثيقات على شكل فيديوهات مصورة أو تسجيلات صوتية بل فضّل كتابة نص على شكل رواية يحاكي الأسئلة الوجودية التي كانت في صلب اللقاءات والنقاشات مع بطل الرواية، والسرد الوصفي لإعادة تغليف الجثث ونقلها ومحاولات تكفينها التي لا تشبه التكفين في شيء، وهي قصص على الرغم من مرور سنوات على تدوينها لازالت –حسب تعبير بكر- توخز الذاكرة وتحك أعماق الروح.
وتابع محدثنا أن مستشفى "601" تحول إلى ما يشبه الوصمة التي يحملها أينما ذهب، وهذا -كما يقول- السبب الرئيسي لولادة هذا النص الروائي المبني على الحقيقة والدراما الوثائقية المبنية على شهادات ومعلومات وحقائق دامغة على إجرام نظام الأسد.
وحول استيحاء عنوان روايته ودلالات العنوان أوضح الكاتب أن عبارة "محاكمات إلهية" كانت تتردد على أسماع المعتقلين قبل أن يقتلوا، فكان سجان يُدعى "أبو شاكوش" وآخر لقبه "عزرائيل" يُخرجان -كما يقول- عدداً من المساجين إلى باحة السجن الخارجية ويُجريان لهم محاكمة أطلقا عليها "المحاكمة الإلهية" لأن السجان في نهايتها كان يقول لمعتقل ما "حكمت عليك المحكمة الإلهية بالقتل" ويقتله بعدها بطرق متعددة تتطرق لها عوالم الرواية بالكثير من التفصيل والسرد.
ولفت بكر إلى أن بنية النص الروائي هو محاولة لمحاكاة عقل المجرم والقاتل الذي يمارس العنف من خلاله ومن خلال المعنّف الذي يقع عليه العنف فكان الأمر – بالنسبة له- أشبه بالبناء المتكامل للظلم والظالم والمظلوم بالوقت ذاته محاولاً وضعهم في سياق سردي واحد.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية