ليس طبيعيا أن تجوع أغنى وأجمل بقاع الأرض، في الغوطة جوع مفتعل ارتكب جريمته من كان يجب أن يطعم أهلها، أياد آثمة تشارك القاتل بمنع الحليب عن أطفالها، أياد رفعت رايات الدين غطاء وأخرى اختصت بعدّ الأموال وتاجرت بالمواقف ولقمة عيش الناس.
إنه التحالف القذر بين السلطة والدين والمال الذي لا يتورع عن ارتكاب كل الموبقات في سبيل مصالح مستعجلة، لا سيما أن إشارة النهاية تلوح في الأفق.
طبيعي أن يسعى الأسد لتركيع الغوطة بكل معانيها ورموزها وهي التي انتفضت في وجهه وجعلت كرسيّه يهتز في "أبو رمانة" على وقع هتافات أحرارها وهم على أعتاب ساحة العباسيين "الشعب يريد إسقاط النظام".
ولم يكن للأسد أن يوقف المد العسكري لثوار الغوطة (قبل تحزّبهم) لولا اعتماده على مشايخه وتجار دمشق والغوطة معا، وكان لهؤلاء الدور الأكبر في إبقائه في مساحة الأمان بعدما استطاعوا بطرق ملتوية إقناع عسكر الغوطة الذين تحزبوا شيّعا بإبقاء دمشق آمنة، وهذا يعني فيما يعنيه إبقاء بشار الأسد في قصره، يتابع قصفهم وارتكاب المجازر بحق أهلهم فيها.
يصعب هضم القصة، ويصعب تصديق قبول من ادعوا الثورية هذه المعادلة، لكن ممارساتهم على الأرض أثبتت قبولهم بها، وهم طالما ادعوا أن لديهم جيوشا جرارة وأسلحة قادرة على فعل كل شيء.
نعم، فعلت كل شيء وخاضت المعارك، لكن فيما بينها، بعد أن عجزت عن منع محاصرة الغوطة أو قبضت ثمن ذلك الحصار، ويغلب الظن أن الاحتمال الثاني هو الأكثر منطقية، معززا بممارساتها اليوم ومشاركتها النظام في تجويع أهل الغوطة.
الأنباء الواردة من هناك تشير إلى توفر الطعام في المستودعات العائدة للفصائل العسكرية المتحكمة هناك، واحتكار أمراء الحرب لعمليات السوق من بيع وشراء بأسعار لا تنافسية فيها، فترتفع إلى ما يريدون.
كان للصراع الخليجي غير المعلن دور كبير في إحباط أو منع معارك التحرير وفك الحصار في الغوطة، وازداد الحال سوءا مع ارتفاع حدة الصراع السياسي للأشقاء، وسط حالة خوف يعيشها أمراء الحرب من حسم أحد الطرفين الصراع لمصلحته وبالتالي خسارة الآخر لكل شيء، لذلك يسابقون الزمن في تفريغ جيوب أبناء غوطتهم وتجميعها في خزائنهم استعدادا للتعامل مع المجهول القادم مهرولا، وقد يصل بأي لحظة، غير مبالين بموت الأطفال جوعا أو مرضا.
وفيما تدق اليوم أمريكا والسعودية طبول الحرب في المنطقة يزداد الغموض، ويتعزز عدم الثقة بالمستقبل لدى كل الأطراف، وهو ما يدفع باتجاه المزيد من التطرف في الممارسات التي تفوق الإرهاب سوءا، مع التباين في الخرائط التي يرسمها المتصارعون لمناطق النفوذ.
قطيع ذئاب مفترسة تنهش الغوطة، أشدهم لؤما من أفتى عبر المنابر بوجوب الابتعاد عن دمشق وأقنع الداعم بذلك، وبالتالي إبقاء النظام قويا قادرا على التحكم بالمنافذ الإنسانية حسب أهوائه ومصالحه، وهو ما يحصل اليوم، وهذا ما دفع أرباح تجار لقمة الناس صعودا، وقد وجدوا في إغلاق المنافذ الإنسانية فرصة لتصريف بضائعهم المحتكرة بالأسعار التي يحددون.
يحق للسوري التساؤل كيف يقبل مشايخ وتجار العاصمة في الداخل والخارج (وبعضهم ممن ادعى الثورية) أن يشتركوا في جريمة التجويع إفتاء وحصارا، وقد يكون ذلك مقدمة للمصالحة مع النظام ودخوله إلى الغوطة وتهجير المقاتلين الذين تشترك قياداتهم في الجريمة جهلا أو خيانة.
*عبد السلام حاج بكري - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية