حتى الآن لا أستطيع النوم ليلاً، يبدأ حديثي معه الثالثة ليلاً، دون معرفة بقصته، أسأله ما الذي يوقظك في هذا الوقت، يبتسم ويجيب بسؤال، هل تصدقني إن قلت لك: أنا حالياً لا أعرف طعم النوم في الليل، بل لا أستطيع أن أنام طالما هناك نجوم متوهجة في قبة السماء، شدّني كثيراً وأثار فضولي، ثم قلت في نفسي: إنه العشق يا صاح، ومساكين هم العشاق.
راودتني نفسي بالسؤال عن السبب والإلحاح في المعرفة وهي صفة تتنافى مع طباعي، إلا أن شيئاً في داخلي حدثني أن وراء هذا الشخص حكاية ما تستحق الإصرار لاكتشافها.
بعد عناء طويل ومحاولات ومراوغة، وضحكة منه تشبه الضوء الأخضر على الموافقة لكشف سر عدم قدرته على النوم، سألني إن كان لديّ وقت وقدرة على السهر والاستماع، فما كان منّي إلا أن شكرته على صبره وقبوله الحديث، الذي بدأ بتنهيدة طويلة والقول مما لا شك فيه أنك سمعت عن مجزرة الكيماوي في خان شيخون، التي كنتُ أنا أحد الشاهدين والمسعفين المتطوعين والناجين دون أن أعلم كيف حصل كل هذا.
*ماتوا وهم نيام
بالأصل لم تشهد خان شيخون هدوءا من القصف، سواء من الطيران الحربي الروسي أو السوري، عداك عن القذائف التي تنهمر علينا من مناطق تمركز قوات النظام القريبة علينا، وعندما سمعت الصوت قلت، هي ضربة عادية، صاروخ أو قذيفة مما اعتدنا عليه، رغم ذلك قررت الخروج من المنزل ومعرفة ما يجري وحجم الأضرار والخسائر، لم أشاهد غير مكان سقوط صاروخ واحد من أصل ثلاثة صواريخ سقطت دفعة واحدة، وهو الصاروخ الذي تناقلت صورته وكالات الأنباء قرب صومعة الحبوب، في بادئ الأمر اعتقدت أنّه غاز الكلور، لم أكن أعرف أنه كيماوي آخر، وأنّنا نواجه مصيراً مشابهاً لما حدث في الغوطة الشرقية.
رجعت إلى المنزل وأخبرت زوجتي، أن الصاروخ قد سقط في الشارع وما من أضرار، وما إن أنهيتُ حديثي وبعد خمسة دقائق بدأت صرخات جيراني تتعالى على بعد عشرة أمتار، يستنجدون ويستغيثون ويطلبون سيارات إسعاف أن تأتي لإنقاذهم.
*محاولات يائسة
خرجتُ مجدداً مهرولاً، وهنا أصابني الذهول عندما رأيت الناس وهي تمشي وتتساقط، دون علم منّي أو دراية سابقة بالأمر، إنه مفعول الكيماوي، كان علينا أن نواجه الأمر، وننقذ من نستطيع ولا ننسى أنفسنا، حملنا أشخاصاً للإسعاف في سيارتنا الخاصة ويبدو أنهم قد ماتوا وهم نيام. رأيت بأم عيني عيوناً تفارق الحياة، ولن أنساها حتى أموت.
كنّا خمسة شباب، نحاول أن نسعف من سيُكتب له عمراً جديداً، إلا أن شاباً من بيننا ارتمى على الأرض فجأة، وأصابه التشنج، يا رب الكون ما الذي يحدث؟، تم نقل الشاب إلى المشفى ولكنه هو الآخر فارق الحياة.
الشاب عبد الحميد اليوسف الذي فقد أغلب عائلته، رأيته كآخر شخص من عائلته كان واقفاً ثم سقط أرضاً، وتمّ إخراج أطفاله وأقاربه في فترة ما بعد الظهيرة من القبو، وقد ماتوا جميعاً باستثناء عبد الحميد.
الجميع في الحارة كان معرضاً للموت، جيراني النازحون من ريف حماة والذين سمعت أصواتهم للمرة الأخيرة، جيراني من آل اليوسف وآل قدح، جيران العمر والطفولة، صديقي المسعف، جاري الطيب الأستاذ أنس وزوجته وأطفاله جميعاً، باستثناء طفل وحيد نجا بمعجزة. لقد استوعبنا الموقف بعد فوات الأوان، بدأنا بخلع الأبواب والشبابيك وإخراج الناس من بيوتهم، إما ميتين أو أن تأثير الكيماوي قد أخذ طريقه إليهم.
*أوكسجين
تذكرت أن لي زوجة، لا أستطيع التكهن بمصيرها، عُدت لأرى ابتسامة خفيفة تعلو وجهها، قاومتُ ما استطعت، حتى ذهبت إلى الصيدلية، وأخذتُ حُقناً وأوكسجين، يا إلهي ما أروع الأوكسجين!.
حتى هذا التاريخ لا أعرف كيف نجونا، ولا حتى الناس الآخرين، أصوات الناس بعد سقوط الصواريخ ما زالت تؤرقني، ونظرات عيونهم تفتك بمخيلتي، وتأبى شهقاتهم أن تغادر رأسي ولو قليلاً. إلى اليوم لا أعرف كيف ينام الناس ليلاً ولا أعرف لذة هذا النوم. لا أريد أن أموت وأنا غير قادر على النطق، لا أريد أن أرحل من هذه الحياة وأنا أنظر بعيون من يأتي ليسعفني والزبد يخرج من فمي، لا أريد الموت وأنا غير قادر على الكلام.
*كريم عنكير - مساهمة لـ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية