المثقف هو الأقدر على فعل الخيانة لأنه الأقدر على تبريرها، قول مشهور يصح في كثر، لكن ما كشفته الثورة أن هناك نوعا آخر، مثلما خانته جرأته في أن يكون إلى جانب الحق، وبالتالي تماهى مع النظام، يبدو أن قدرته خانته حتى على تبرير الخيانة، ليصل مرحلة تسويق السراب والتعامي وتجاهل حقائق أشلاء المكان وفتات المجتمع رغم أنها تفقأ العيون وتملأ الأفواه دما، والأدهى من ذلك أنه مازالت لديهم القدرة، على فتح العيون والأفواه، وكأنما تصح بهم الآية القرآنية "أخذتهم العزة بالإثم".
في السنة الأولى من الثورة وربما الثانية أيضا، كان النظام يصر على إنكار وجود "الأزمة"، وفي المقابل كان بعض الناشطين ممن يحاولون استفزاز سكان العاصمة وغيرها للتحرك، يطلقون منشورات على "فيسبوك" وغيره تشير الى أن سوريا أوسع من المساحة الممتدة من باب دمشق الشرقي إلى آخر أوتستراد المزة ومن مخيم اليرموك إلى سفوح قاسيون وحي المهاجرين، وأن هناك ما يحدث، ويستحق الاهتمام، في مدن وبلدات سورية كثيرة، بعضها لا يبعد عن القصر الجمهوري (قصر الشعب) أكثر من 3 كم.
بعد سبع عجاف كاشفات، ليس وحده سمّان الحارة (مع فائق التقدير) من يعتقد أن حدود العالم تنتهي بحدود حارته، بل أيضا المثقف الذي لا يرى في حدود الوطن أبعد من طريق مطار دمشق الدولي، حيث أقيم "ما يسمى" معرض الكتاب.
لعلنا لا نعلم، فربما وزير الثقافة "محمد الأحمد" قدم نظرية جديدة في حدود العالم الفكرية، وربما الجغرافية مادام إنجاز معرض الكتاب على بعد كيلومترات قليلة من دمشق التي تعددت احتلالاتها، بات إنجازا يصح أن نطلق عليه، وفق رؤية ذلك المثقف، ضوءا في آخر نفق الأزمة!.
التجول في معرض للكتاب من أكثر الأشياء إثارة للمتعة، فما بالك إن كان هذا المعرض في دمشق وخلال مساءات صيفها العليل، هو وصف ضمني قدمه أحد من زاروا معرض الكتاب الذي أقيم مؤخرا، والذي لم يعكر صفوه، بحسبه، سوى ارتفاع أسعار الكتب.
في الطريق من وسط دمشق إلى مكان المعرض الكثير من الأفرع الأمنية التي لا بد من المرور أمامها، وربما التوقف أمام الحواجز المنصوبة بقربها، في تلك المقرات الآلاف من المعتقلين، قد تأتيهم ساعة فرج كتبها بارئهم، وربما يلتحقون بعشرات الآلاف ممن قضوا تحت التعذيب، هؤلاء لا يمكن رؤيتهم بالعين، فرؤيتهم بحاجة "رأى القلبية"، وقد اجتهد وأقول "رأى الضميرية"، التي أتاحت رؤية الضوء في آخر نفق الأزمة من "إست" محمد الأحمد.
هؤلاء القابعون في المعتقلات، لهم أهل في خيام "عرسال" وفي المخيمات التركية، والأردن وغيرها، منهم من عاد مؤخرا إلى الداخل السوري وفق اتفاقات مرة يعقدها الإيراني ومرة ميليشيات حزب الله وثالثة برعاية خليجية ورابعة وسادسة، لكن المؤكد أن نظام ثقافة "محمد الأحمد" لا علاقة له بها.
بل إن هناك من عاد بعد أن هيأت لهم دول الجوار منطقة شبه آمنة، آمنة من الميليشيات التي أوجدها النظام ومن النظام نفسه، وهذه حالة لم تشر إليها الكتب التي عرضت في دمشق.
لا أجمل من العودة إلى الوطن، بعيدا عن مفهوم "حضن الوطن" سيئ الصيت، سوى أن يكون هناك وطن محكوم بالقانون والعدالة والمواطنة وغيرها من المفاهيم التي باتت من أبجديات دول العالم باستثناء مشرقنا العربي ومغربه وفي القلب منه سوريا.
أما وطنك يا صديقي، بمفهومه السياسي، فلم يصل بعد إلى مستوى الحضانة الأخلاقية، وأعدك أن أرى فيك شخصا قادرا على توزيع صكوك الوطنية عندما تجرؤ على إنزال صورة بشار الأسد المعلقة فوق رأسك في مكتبك، عندها يمكن القول "أسدل الستار".
*حسين الزعبي - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية