من هنا رحلت باصاتهم قبل قليل، تاركين خلفهم صمتا رهيبا موحشا يتسلل من شقوق خيامهم المجاورة لدكانه في مخيم "الرحمن".
لا شجار على صنابير المياه بعد الآن، ولا صياح ولا جلبة سوف تسمع حول طاولة الزهر التي اعتاد جيرانه منازلته بها وهزيمته عند ساعة العصرية من كل نهار.
كأس شاي واحدة تكفي لتوضع بجانب إبريقه الذي وضعه ليجلس أمام باب دكانه الذي جهزه داخل خيمة، فما من أحد سيتحلق حول ابريق الشاي، وما من ضيوف سيتخاطفون كما كل يوم أكوابه العامرة من على صينية النحاس.
سيجلس وحيدا هذه "العصرية"، وربما أجلس بجانبه طفله (المعاق) "خالد" إبن التسع سنوات عله يستمد من حضوره شيئا من الألفة والحنان وسط هذه المخيمات الخاوية على عروشها من حوله.

محمد الخطيب (أبو شفيق) اللاجئ السوري من بلدة "فليطة" (المشرفة) في القلمون الغربي، لم يعد يتذكر أسماء الراحلين من جيرانه وأهله إلى إدلب، لكن صورهم وضحكاتهم لا زالت تلتف حوله، وتطوق عتبة دكانه بشقاوتها البريئة العذبة.
وفي دفتر حساباته الرث قائمة عشوائية بأسمائهم جميعا.."محمود استدان علبتي سردين وكيلو سكر، جابر أخذ دزينة صحون وخمس علب بسكوت، أبو راكان استدان مكنسة قش للخيمة وثلاث لمبات من النوع الرديء".
هم لم يلجؤوا لغيره طيلة تلك السنوات القاسية التي مرت عليهم من الغربة والفقر والحاجة في مخيمات "عرسال"، يقول أبو شفيق.
كان دفتر حساباته واسعا كريما كقلبه الطيب الذي أحب جيرانه وهنا على وهن
وساعدهم رغم فقره وعوزه وإعالته لخمسة أطفال (أحدهم من ذوي الاحتياجات الخاصة).

كان يستدين من التجار ليلبي حاجياتهم، ديون أغرقت "أبو شفيق" في بحارها ودهاليزها المركبة، كما أغرقه حب جيرانه وأهله في مخيم "الرحمن" في دروب التضحية والتفاني لتلبية حاجاتهم.
بعد مسير الحافلات التي تقل أهله من مخيمات "عرسال" إلى إدلب، بكى أبوشفيق، كثيرا، بكى بكاءً يعكس لوعته، حاولت أن أواسيه، وأهون عليه لوعة الفراق التي كانت تعصف بنا جميعا، وأن أنزع من بين يديه ذلك الدفتر الذي بدا لي كدفتر مذكرات قد خط عليه الراحلون كلماتهم وذكرياتهم قبل أن يستقلّوا باصاتهم ويمضوا إلى ما وراء الحدود.
بصعوبة تمكنت من نزع الدفتر من بين يدي ذلك الرجل المكلوم الحزين، أكثر مليون ونصف ليرة لبناني قد رحلت منذ لحظات من كان سيسددها له من أهله الذين ابتلعت وجوههم ورائحتهم المسافات.
رحلوا، تاركين خلفهم الرجل الطيب "سمان المخيمات" الأشهر "أبو شفيق" وهو يرفع يديه إلى السماء باكيا وهو يقول: "روحوا الله يسامحكم مني ومن الله يا أهلي توصلوا بالسلامة".
عبد الحفيظ الحولاني - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية