أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

على مذبح الحقيقة.. حسين الزعبي*

أرشيف

في واحدة من ليالي دمشق الباردة جداً، وأعتقد أنها كانت في كانون من العام 2004 شاءت لي الظروف أن ألتقي الشاعر العراقي "مظفر النواب"، في مقهى "الهافانا"، حيث كان دائم الجلوس فيه.

الدعوة للقاء كانت بمثابة "هدية" من صديق مفعم، كما أنا، بالحالة العراقية في حينه، فجرح بغداد كان ندياً. 

في الطريق إلى اللقاء كنا نسير على عجل.. كيف لا ونحن في طريقنا لنسامر من يردد أغاني العشق العراقي بثمالة المحب، ونجالس أول من تمرد على مفهوم الديكتاتور ومخبريه، وأول من لم يستثنِ أحدا من "قوادي" "عروس العروبة"، في قصيدته الشهيرة التي تحدث فيها عن "القدس عروس عروبتكم.."

جلست كتلميذ مشاغب اضطر للصمت في حضرة معلمه، واكتفيت في بداية الجلسة بالاستماع لحديثه مع الصديق، وكان بطبيعة الحال حديثا يتعلق بالشأن السياسي العراقي، منه ما أعجبني ومنه ما لم يعجبني، وبعد أن طال الحديث بالسياسة بادرته بسؤال: "أستاذ أبو عادل هل ستكتب قصيدة للعراق من وحي حالة الاحتلال؟" طبعا لا أخفيكم أنني سألته وكلي خجل أن يقول لي لقد كتبت ألم تقرأ، فأبدو كمغفل. فأجاب مالم يكن بالحسبان: "المشهد السياسي لم يتضح بعد حتى أكتب؟"..

تمتمت في نفسي ما أخجل من كتابته، فأي مشهد هذا الذي لم يتضح وقد مر على العراق حول من الاحتلال!! وأي شعر هذا الذي يبرر وجوده بالمشهد السياسي، وإن كان كذلك، فلنبرر لعبد العزيز الحكيم طلبه من العراقيين في حينه دفع 100 مليار دولار كتعويض لإيران عن الحرب العراقية الإيرانية.

لا ينتقص ما سلف من شاعرية مظفر وحب الناس له، لكنه، على مستوى شخصي على الأقل، أزال بكلماته الحالة الرمزية التي زرعتها الأيام عنه في وجداني..

أوردت ما أوردت متحسرا على الأجيال التي ستأتي بعد عقدين أو ثلاثة، أي رموز سيحملونها في ذاكرتهم، ونحن مازلنا ومعنا قادتنا وعسكرنا ورجال "أدياننا" وكل ما لدنيا من شعراء وفنانين وكتاب، إلا من رحم ربي، وقد لا يرحم، مازلنا في طريقنا إلى قاع القاع ولم نصل.. ما الذي ستحمله هذه الأجيال في ذاكرتها عن سوريا واليمن والعراق والقضية الفلسطينية، ومقاطعة إسرائيل وحصارها الذي استبدل بحصار غيرها..

لا ريب أنه من المؤسف عدم وجود شخصيات تمثل حالة رمزية وأنموذجا، فالشعوب بطبيعتها تبحث خلال أزماتها عن مثل هذه الشخصيات، بل وتهرب إلى التاريخ أحيانا للبحث عنها..إلا أن من نعم ما يحصل، أن لا رموز مزيفة بعد اليوم.. فالجميع، بما فيها الشعوب، على مذبح الحقيقة.

*من كتاب "زمان الوصل"
(205)    هل أعجبتك المقالة (191)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي