خلف قضبان زنزانته المعتمة في سجن "صيدنايا" دأب الفنان السوري "خليل حمسورك" على قضاء ساعات سجنه الثقيلة بالحرق على الخشب وإبداع لوحات فنية، لطالما وجدت طريقها خارج "الباستيل السوري" لتُهدى لأهالي المعتقلين وربما حملت في زوايا مخفية منها رسائل اطمئنان عن أبنائهم المغيّبين.
ذات يوم من عام 1987 اعتقل "حمسورك" في مدينة حلب بتهمة انتمائه إلى حزب "العمل الشيوعي" المحظور وسجن لسبع سنوات حتى 1994 أمضى منها عدة أشهر في فرع الأمن العسكري في حلب وشهرين ونصف في فرع "فلسطين" بدمشق، والباقي في سجن "صيدنايا".
وتعرض الشاب الذي لم يكن قد تجاوز 17 من عمره خلال فترات اعتقاله تلك لتعذيب شديد أفقده ذاكرته مؤقتاً، وخضع للعلاج فترة حتى عُوفي، ولكن ذاكرته الفنية انتعشت، فتمكن من تحويل أوقات السجن إلى شيء ذي معنى –كما يقول لـ"زمان الوصل"- مضيفاً أنه اعتاد آنذاك على المشاركة في تأدية مقاطع تمثيلية، فيما عُرف بـ"مسرح صيدنايا" إلى جانب هوايته في الحرق على الخشب التي كان يحاول من خلالها "تغيير مزاج الجدران".
وكان لديه –كما يقول- مجال لتعلم لغات كثيرة وتمكن من تعلم اللغة الفرنسية، ولكن اهتمامه انصبّ على الهواية التي لطالما أحبها وأبدع فيها قبل أن يغيب خلف الشمس، وهي رسم لوحات على الخشب بواسطة الحرق بالنار، وكان "حمسورك" قبل الاعتقال يدرس الفنون الجميلة ولم يتمكن من متابعة دراسته بسبب اعتقاله.


يقول: "سجن صيدنايا كان يفتقر للألوان أو لخامات الرسم إضافة إلى ضيق اليد الذي لم يكن يسمح بشراء مستلزمات الرسم من الخارج، مما اضطره للجوء إلى تقنية بدائية آنذاك تتمثل في الحرق على الخشب، مستغلاً إدخال صناديق الخضار، فكان يختار منها ما يراه صالحاً للرسم والحرق، وينفذ عليها رسومات لا يلبث أن يقدمها كهدايا لأصدقائه المعتقلين كي يقوموا بإهدائها بدورهم لأهلهم وأقاربهم أثناء زياراتهم.
ويروي "حمسورك" الذي ينحدر من مدينة "عين العرب" (كوباني)، ويعيش اليوم في مدينة "ليون" الفرنسية أن عمله في مجال الرسم على الخشب كان بدائياً وبسيطاً للغاية بداية اعتقاله، فما إن يتم التجهيز لطعام الإفطار أو الغداء أوالعشاء حتى كان يهرع للجلوس بالقرب من البوتوغاز ويقوم بإحماء سيخ معدني رفيع موصول بقطعة خشبية على النار ويبدأ برسم لوحاته بطريقته المبتكرة.
ويتابع إنه في السنة الأولى من اعتقاله تمكن صديقه "غسان مارديني" من إدخال آلة تستخدم في لحام الأسلاك أثناء تصليح الراديوهات والتلفزيونات لينتقل إلى مرحلة جديدة أكثر تطوراً.
خلال سبع سنوات تمكن "حمسورك" من إنجاز ما يقارب الألف لوحة قام بإهدائها جميعاً باستثناء عدة لوحات شارك فيها في معرض نظمه الفنان "يوسف عبد لكي" لأعمال المعتقلين داخل "صيدنايا" في باريس عام 1990 عن طريق الأهالي المهداة لهم، وضم المعرض آنذاك -كما يقول-عشرات الأعمال في الحفر والرسم والضغط على النحاس وغيرها من الفنون.
ولفت "حمسورك" إلى أن الحرق على الخشب استهواه آنذاك لعلاقته بالمزاج البطيء داخل السجن والوقت المفتوح، ووجد أن أفضل شيء هو تحويل الملل والوقت الطويل إلى متعة.
وبينما تحول النار عادة الأشياء إلى رماد وتحرق الأخضر واليابس، أراد الفنان المعتقل من خلال الحرق على الخشب إجراء مصالحة جمالية تحمل متعة بصرية ما بين عدوين وهما "النار" و"الخشب" وخلق لوحة متكاملة الأبعاد من لون واحد (لون الحرق).


وأشار إلى أن اللوحات التي كان يرسمها بالحرق على الخشب كان لها وظيفة أخرى، حيث كان المعتقلون يهرّبون رسائل لذويهم بداخلها فيتم تجويف جذع صغير من القطعة الخشبية أسفل الصندوق بعد نزع اللحاء وتحشى بالرسائل ثم يُعاد اللحاء كما كان.
وحول حضور الوجوه المتعبة وبخاصة المسنين في أعماله أوضح المعتقل السابق أن الوجوه الإنسانية هي الأكثر تعبيراً عن معاناة البشر، وفي تفاصيل هذه الوجوه وأخاديدها تنعكس حياة أخرى وتاريخ إنساني، مضيفاً أن "هذه الوجوه تمتلك لغة خاصة للتواصل بين الناس وهي بمثابة مرآة حافظة لذاكرة البشر، لذلك كانت ولا تزال حاضرة في اللوحات".
ومن هذه اللوحات -كما يقول- لوحة لعجوز من الرقة أطلق علها اسم "الأم الحارسة" تلبس الزي الرقاوي وتجلس أمام باب بيتها وقد وضعت يدها على خدها وكأنها تنتظر ما لا يأتي، وبدا حولها دمار هائل.
بعد الإفراج عنه عام 1994 أقام ابن "عين العرب" مرسماً خاصاً واشترى بعض الأجهزة المتخصصة بالحرق وبدأ بتطوير تقنياته ونوعيات الخشب الذي يعمل عليه وأدخل –كما يقول- ثلاثة أجهزة مستخدمة عالمياً في هذا المجال الفني ومنها جهاز هوائي يستخدم في صيانة الكمبيوترات والأجهزة الإلكترونية، وجهاز آخر عبارة عن "شلمونة" تستخدم من قبل مخبريي الاسنان وتعمل على الغاز.
وككل السوريين الأحرار ثار "حمسورك" بوجه النظام الدكتاتوري البراميلي -حسب وصفه- الذي أودى بسوريا إلى التهلكة، وبعد دخول تنظيم "الدولة" إلى الرقة ومصادرة منزله ضمن مصادرته لبيوت النشطاء في المدينة، وتهديده بقطع رقبته بحد الحرابة نهاية العام 2013 اضطر للجوء إلى تركيا التي بقي فيها حوالي سنة قبل أن يلجأ ثانية مع عائلته إلى فرنسا.
ويعمل "حمسورك" حالياً مع منظمة "ألوان" الفرنسية السورية كمتطوع، وهي منظمة تدعم أطفال سوريا في الداخل السوري، ودأب منذ وصوله إلى فرنسا –كما يقول- على تدريب الأطفال الفرنسيين واللاجئين على فنون الرسم والحرق على الخشب ضمن ورش فنية، كما أقام معرضاً جماعياً لمتدربيه الصغار مع الجامعة الامريكية بباريس.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية