أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

فَشِل الانقلاب، نَجَح الانقلاب!.. تركيا وثنائية الخمر والميسر الروسيين

هل وصل الغربيون إلى حد الصدمة من المدى الذي ذهب به أروغان في علاقته مع الروس

مرت سنة وأكثر، وما تزال مشاعر الفخر تعتمل في صدور شريحة واسعة من الأتراك، ساسة وإعلاميين ومواطنين، حين يتحدثون عن إفشال محاولة الانقلاب في السيطرة على مقاليد السلطة، وقد فشل الانقلاب حقا في هذه الجزئية بالغة الأهمية، لكنه بالمقابل نجح في إحداث "انقلاب" في سياسة البلاد، وهنا بيت القصيد الذي يحاذر كثير من المفاخرين والمعجبين الخوض فيه.

فبعيد الانقلاب مباشرة، وعطفا على ردود الباردة حد الريبة من قبل بعض "الحلفاء"، تبلورت معالم سياسة تركية جديدة، جنحت بأنقرة أردوغان إلى روسيا (الجار اللدود)، ورفعت من مستوى التوتر مع الاتحاد الأوروبي بشكل عام، وزادت من حدة النقاش الدائر حول التزام حلف شمال الأطلسي (ناتو) بتركيا والتزامها به.

صحيح أن فن التحليل السياسي يتنافى مع إطلاق الأحكام الشعورية على القضايا، ويتجنب أوصافا من قبيل: محزن، مؤسف، مقلق.. لكن الحقيقة أن التغيرات التي طرأت على ملامح السياسة التركية، منذ عام إلى الآن، تبدو مقلقة وللغاية، ليس لأجل مستقبل أنقرة فحسب، بل لأجل مستقبل المنطقة برمتها.

ومع هذه التغيرات، التي دُفعت أنقرة لاختيار بعضها، تبدو مواجهة التحديات التي تنتظر تركيا بحاجة إلى أكثر من قواعد السياسة التقليدية، ونصائح المستشارين الذي تمرسوا في فنون الممكن، لاسيما أن أردوغان اختار استراتيجية إطفاء النار بالنار، وجاءت بالدب الروسي إلى كرمها.

لم يترك الأوربيون كثيرا من الفُرج مفتوحة أمام أنقرة، بل على العكس، سدوا في وجهها ما تبقى من مسالك –على وعورتها- لدخول نادي "الاتحاد" ولو من باب إلغاء التأشيرات، وتعامل الأمريكيون في الحقبة الأوبامية والترامبية بكثير من البرود والتجاهل لمخاوف تركيا مما يحدث على الساحة السورية، لا بل تمادت واشنطن في دعم مشروع يعد بمثابة قنبلة نووية موقوتة في عيون أنقرة، ووقف "ناتو" كمؤسسة متكلسة عجوز، حتى غدا أشبه بـ"حلف وارسو" في آخر أيامه، مجرد حلف ورقي لا نفع لوثائق الدفاع المشترك فيه سوى لنقعها وشرب مائها.

هذه المواقف وغيرها من ردات فعل باردة وصمت مريب حيال محاولة الانقلاب، جرت تركيا جراً إلى المعسكر الروسي، الذي يصيح الغربيون ليل نهار محذرين من الالتحاق به والتحالف معه، معولين على خيال جزرة يلوحون به لتركيا، فيما روسيا تلوح لها بحزمة جزر وعصي أيضا.


هل وصل الغربيون ولاسيما الأمريكان إلى حد الصدمة من المدى الذي ذهب به أروغان في علاقته مع الروس، ربما نعم وربما لا، ولكن الثابت أن مسؤولا من وزن رئيس هيئة الأركان الأمريكية "جوزيف دانفورد" حاول تكذيب خبر إبرام أنقرة اتفاق منظومة "إس 400" مع روسيا، وحاجج بأنه غير صحيح، وإن كان صحيحا، فهو مثير للقلق، ليأتي الرد من "أردوغان" نفسه بعد ساعات، بأن لا تقلق فالخبر صحيح والصفقة أبرمت.

"دانفورد" بدا غير مصدق تماما، منكرا حتى آخر لحظة، من منطلق أنه يعرف الأتراك جيدا، وقد زار تركيا نحو 12 مرة خلال السنة الماضية وحدها، يبدو أنها كانت مخصصة كعادة السياسة الأمريكية لشراء الوقت ريثما يتمون مشروعهم في سوريا، فيما كان "أردوغان" نفسه يتم الإجراءات لشراء "إس 400".

وفي موازاة خبر صفقة "إس 400" الذي وقع كالصاعقة على الغرب، أو هكذا يبدو، جاء التوتر الشديد مع ألمانيا ليستدعي تحديا جديدا أمام تركيا، واجهه "أردوغان" بكلام صارم محذرا من أن ألمانيا "ستدفع الثمن" إن حاولت فرض عقوبات اقتصادية على تركيا، وهي لهجة تحد غير عملية ومتناقضة إلى حد كبير، فتركيا رضخت لموسكو شرط إلغاء المقاطعة الروسية الاقتصادية، فما بالك بأنقرة اليوم وهي تواجه شبح مقاطعة ألمانية، قد تتوسع لتغدو أوروبية، وعندها لن يستطيع أحد التنبؤ بتبعاتها.

وفي المقابل، هناك نار الخلاف مع اليونان (العدو التقليدي) التي لم تخمد يوما، ونذر توتر جديد وحاد مع "تل أبيب" التي فرغت أنقرة للتو من تطبيع معها.. توتر مرده الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على الأقصى، وهو ملف لا يمكن لتركيا تجاهله، كونه يمثل نقطة ارتكاز في سياسة "أردوغان".

إزاء كل هذه المقاربات التي تلوذ بها أنقرة حاليا، تبقى المفاضلات صعبة والأجوبة مستعصية والتطورات التي تنتظر تركيا والمنطقة محيرة.. فـ"التغطي" بواشنطن لا يدفع عن المرء بردا أو يستر له عورة، وإصرار القرع على أبواب الأوربيين الموصدة بإحكام نوع من العبثية السياسية، والاعتماد على ناد عسكري مترهل كـ"ناتو" لايحمي أمنا قوميا ولا يدفع خطرا استراتيجيا.. ولكن الروس والمضي في التحالف معهم ليس بديلا، فهؤلاء في أفضل الأحوال ليسوا سوى "خمر وميسر"، أثمهما أكبر من نفعهما، المؤقت والظاهر والضيق، وهي 3 محددات تجعل من أي نفع مجرد نقمة ولو تلبس بلبوس النعمة.

إيثار عبدالحق- زمان الوصل
(114)    هل أعجبتك المقالة (119)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي