أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

"تدمرية" اجتمعت فيها وفي عائلتها مصائب السوريين.. قصة الثمانينية التي "أُنقذت" في الرقة بالتفاصيل

* "آمنة العبيد" تجسد حكاية "تدمر" التي لم تحك من قبل مع ألوان الظلم والظلمات.

*"عبد الحليم" شاب بسيط اجتمع على اعتقاله النظام والتنظيم وأعوان التحالف.
*قذائف التحالف وتابعيه سقطت على منزل العجوز بعد ساعات من انتقالها إليه هربا من قصف بيتها القديم.
*بقيت العجوز الثمانينية مع جثة ابنها وابنتها أسبوعا تحت القصف في الرقة.

لم يعد للرقة من ارتباط باسم "الرشيد" كما كانت طوال قرون، بل بات تعريفها الدارج "عاصمة تنظيم الدولة"، ولأجل هذه العبارة فقط، ينبغي -وفق من يحاربون التنظيم- أن تدفع المدينة وكل من فيها من مدنيين ضريبة باهظة من القتل والتشريد، دون أن يلتفت لهم أحد، أو يجرؤ على شجب ما يعانونه طرف من الأطراف، حتى لو كانت هذه المعاناة مما يصعق الخيال وتنوء بحمله الجبال، كحال القصة التي تكشف "زمان الوصل" عن بعض فصولها في هذا التقرير.

فيوم الخميس الماضي أضيفت إلى أرشيف الحرب في سوريا صورة "سوريالية" تظهر رجلا أشعث أغبر حفرت كل عوامل الخوف والقهر تضاريسها في وجهه، وإلى جانبه امرأة مستلقية على ظهرها أخفت وجهها بيدها المجعدة الناحلة.

*موت ربهم
في العادة تغني الصورة عن ألف كلمة وربما أحيانا مليون، لكن صورة الرجل والمرأة على كل مأساويتها وعلى كل ما تصفه من أهوال الحرب، بدت هذه المرة أصغر بآلاف المرات من القصة التي تقف خلف مشهد أطرته عدسة مصور من "وكالة الصحافة الفرنسية"، واستخدمته "قوات سوريا الديمقراطية" في الدعاية لعناصرها وتسويق تعاملهم "الإنساني" مع المدنيين، عبر مقطع مصور بثته بتاريخ 13 الجاري تحت عنوان "إنقاذ عجوز مقعدة من الموت المحتم في مدينة الرقة".


أظهر الشريط عددا من عناصر "سوريا الديمقراطية" وهم يدخلون على عجوز في الرقة، وأول ما يسأل أحدهم عن تلك الجثث المرمية بجانبها!، محاولا أكثر من مرة أن يستنطقها عن طريقة موتهم وهي تؤكد له أنهم ماتوا "موت ربهم"، أي ميتة طبيعية دون تدخل من أحد، إلى أن كف عن سؤالها.

وتوسلت العجوز لعناصر "قسد" أن "يستروا عليها" مخبرة إياهم بأنها "مقعطلة"، وهي مفردة تعني بلهجة المنطقة التي تتحدر منها العجوز: مقعدة ومشلولة.

وبصوت ملؤه حنان الأمومة ونظرات حائرة، توجهت العجوز إلى من يقفون أمامهما تسأل عن مصير بناتها، قائلة: "بناتي عندكم، بناتي عندكم"، فيسألها أحد العناصر "بناتك عندنا غاد؟"، فتتراجع وترد: "مدري وينهن"، ثم تعود وتقول: "بناتي عندكم وابني عندكم".

ويحاول العناصر إقناع العجوز مرات عدة بالذهاب معهم، لكنها تتمنع وهي تنظر بطرف عينها إلى الجثتين المرميتين في طرف الغرفة، وكأنها تقول: "أين أترككما؟"، وهنا ينبري أحدهم ليطمأنها بأنهم سيتولون دفن الجثتين، فلا تلين كثيرا، وتعود للسؤال عن بناتها، فيأتيها الجواب: "عندنا، كلهم عندنا"، في مسعى جديد من عناصر "سوريا الديمقراطية" لإقناعها بالذهاب معهم، وهو ما يتم أخيرا، حيث تضع العجوز بعض "الثياب" ضمن خرقة قماش وتربطها لتغدو "صرة" (بقجة)، وهي تندب مرارة عيشها وتصدع فؤادها (مرمروني.. علوا ماني عايشة وشايفة أيام سود.. قلبي صبر).

وفي نهاية الشريط يظهر رجل بائس المنظر إلى جانب العجوز، ليجيب عن بعض أسئلة توجهها له صحافية ترافق قوات "سوريا الديمقراطية"، يظهر من خلالها مدى بساطته، فيما تحاول العجوز أن تقطع حديثه وتلتفت انتباه الصحافية إليها.

هذه هي قصة العجوز، كما يقدمها الشريط، وهي قصة يمكن أن تشابه عشرات آلاف القصص لسوريين طحنتهم الحرب، وباتت مآسيهم مادة دسمة تتسابق على عرضها دول ومنظمات وفصائل ووسائل إعلام و...، كل حسب غرضه وتوجهه.. ولكن الوقائع التي خلف كواليس القصة تقول ما لايُحتمل.

فقد روى أحد المصادر الخاصة لـ"زمان الوصل" حكاية العجوز وعائلتها، منوها في بداية حديثه إلى أنه لايتحدر فقط من نفس مدينتها، بل إنه مطلع على كثير من تفاصيل حياتها.

وافتتح المصدر حديثه مشيرا إلى أن العجوز تدعى "آمنة أحمد العبيد" وتكنى "أم فيصل"، وأن عمرها يتجاوز 80 عاما، أما ذاك الشخص الذي بدت عليها ملامح الشيخوخة فجعلته أكبر من عمره فهو ابنها "عبدالحليم عليوي الطالب".

وبما إن العجوز "آمنة" وأسرتها هم من أهل تدمر، فإن قصتهم لاتقل غرابة عن هذه المدينة، التي هي استثناء على مستوى سوريا كلها، نتيجة تعاقب سيطرة النظام وتنظيم "الدولة" عليها أكثر من مرة؛ ما جعل "التدامرة" عمليا بين سندان ومطرقة، وأورث قصصهم طابعا مغايرا لكل قصص السوريين.

ترملت "آمنة العبيد" منذ زمن طويل، فتحملت عبء تربية عدد كبير من الأبناء (ذكور وإناث)، ولكن كل شظف العيش وشقاءه في العقود السبعة الماضية كان في كفة، وأهوال السنوات الأخيرة في كفة أخرى.
فبحسب مصدرنا، نزحت العجوز وأبناؤها من تدمر، بعد فترة من سيطرة التنظيم عليها لأول مرة (صيف 2015)، نتيجة القصف الجنوني الذي كان يصب النظام حممه على المدينة بدعوى محاولة طرد التنظيم، وقد خرجت العجوز الثمانينية من بيتها لا تلوي على شيء، خائفة هائمة، ولم تجد أمامها وأمام أولادها سوى مدينة الرقة.


*"داعشي" هنا "عميل" هناك
أثناء فرار الأسرة من "تدمر"، تفقدت الأم وأبناؤها بعضهم بعضا، فلم يجدوا "عبدالحليم" بينهم، وهو الشقيق المعروف ببساطته إلى حد "الدروشة"، فاغتموا لذلك، وزاد من غمهم العجز عن الرجوع للبحث عنه واصطحابه.

استقرت العجوز وأبناؤها في الرقة، فيما بقي "عبدالحليم" بعيدا عنهم في "تدمر" يتدبر أمره بما تيسر، حتى عاود النظام الدخول إلى المدينة فنكل بمن استطاع من أهلها، بحجة أنهم "حاضنة لداعش"، كما سبق للتنظيم أن نكل ببعض "التدامرة" بحجة أنهم "عملاء" للنظام!.

ولأن "عبدالحيلم" كان أعجز من أن يفر مع الهاربين لدى دخول النظام، فقد بقي في تدمر، لكن أخباره انقطعت حتى ظن أهله أنه قضى على يد قوات النظام ومليشياته، ثم ما لبث أن عاد للظهور بعد نحو شهرين، وعندما استفسر منه بعض العائدين إلى المدينة عن سر غيابه، أخبرهم أنهم "جرجروه إلى الشام" وحققوا معه، في إشارة إلى مخابرات النظام.

كان بؤس "عبدالحليم" ولحيته الطويلة وبقاؤه في المدينة، عوامل شبهة ومسوغات كافية لدى النظام لاعتقاله عندما أعاد السيطرة على "تدمر" ربيع 2016، وكان بقاؤه في تدمر عندما عاد التنظيم إليها للمرة الثانية أواخر 2016، مسوغا كافيا لدى التنظيم لوضعه في دائرة المشبوهين ونفيه إلى مدينة تبعد عشرات الكليومترات عن "تدمر" من أجل إخضاعه لـ"دورة شرعية"، علما إنه وعلاوة على بساطته أمي لايعرف كتابة ولا قراءة.

وهكذا أصبح "عبد الحليم عليوي" نموذجا مأساويا، لحال أهل "تدمر" بين فكي كماشة النظام والتنظيم، فهم في عين الأول "داعشيون" وفي عين الأخير "عملاء"، أما في الحقيقة فهم أكثر من ذاق ويلات الطرفين في سوريا، لكثرة ما تبادلا السيطرة على تدمر ومحيطها (4 مرات).

بعد رجوعه من منفاه وإتمامه "الدورة الشرعية"، توجه "عبدالحليم" إلى تدمر والحيرة تملؤه حول هوية الطرف المسيطر، أهو النظام أو التنظيم؟!، ولاتقاء شر الاثنين، قرر الرجل بعفويته البالغة أن يختبئ في بيته ولا يخرج منه، فيريح ويستريح.

مكث "عبد الحليم" خائفا متواريا في بيته عدة أيام، حتى مر ابن أخ له على المنزل لتفقده، فوجد عمه على حال مزرية للغاية، بلا طعام ولا شراب، فحمله وانطلق به نحو الرقة، ليعود شمل الأسرة من جديد.

ولكن ما هي إلا شهور قليلة، حتى أطلق "التحالف" وأعوانه ما سموها "معركة تحرير الرقة"، هذه المعركة التي قتل تحت دخانها وغبارها كثير من الأبرياء، دون أن يكترث بهم أحد، كما يقول مصدرنا، موضحا أن أولاد الحاجة "آمنة" هم من ضمن هؤلاء الأبرياء، الذين قلما سلموا من طرف، سواء كان نظاما أم تنظيما أو تحالفا وأعوانه، لا بل إن الطرف الأخير ختم على مأساتهم بمشهد بالغ السوداوية، وهو يمطر الرقة بسكانها ونازحيها بوابل من صواريخه وقذائفه، التي سقط أحدها على بيت العجوز وأسرتها فقتل لها فلذة كبديها "محمد" و"نعايم"، وأصاب أختين اثنتين، ترقدان في أحد المشافي بين الحياة والموت.


وفصّل المصدر لـ"زمان الوصل" أكثر، موضحا أن اشتداد قصف التحالف وأعوانه على أحد محاور الرقة، أصاب البيت الذي كانت تستأجره الأسرة بقذيفة، سقطت معها إحدى الأخوات جريحة؛ ما دفع العجوز وأسرتها للفرار والانتقال نحو بيت آخر في أحد أحياء المدينة ظنوه آمنا، ولكن ما هي إلا ساعات من انتقالهم حتى تعرض البيت للقصف، ففقدت العجوز ولدا وبنتاً (محمد ونعايم)، وجرحت ابنتان أخريان (إحداهما كانت ما تزال تعاني أثر جراح قصف البيت القديم).

ومع إصابة الأختين وجد شقيقهما "عليوي" أن "الحي أبقى من الميت"؛ فسارع لإسعافهما إلى إحدى المشافي حتى قبل أن يدفن جثة أخيه وأخته، ولم يعد مع العجوز سوى ابنها "الدرويش" عبد الحليم.

وفي هذه الأثناء اشتدت المعارك أكثر، وصار الانتقال خطرا للغاية، فإما أن يقتل من يتنقل بين المناطق أو يعتقل بوصفه عميلا لهذا الطرف أو ذاك.. وهكذا تقطع شمل الأسرة من جديد، حيث البنتان المصابتان وشقيقهما في ناحية، والأم وابنها "عبد الحليم" وجثمان الأخوين في ناحية أخرى.

*لنتخيل
تفاقمت مأساة العجوز وأسود ليل حياتها أكثر، وهي تبيت وتصحو مع جثتي ولديها المغطيتين لمدة أسبوع.. أسبوع يكفي لأن يفقد السوي الصحيح عقله ويقتل إحساسه، فكيف ستكون الحال مع عجوز عاركت نوائب الأيام، وابن لايعرف تدبر أمر نفسه، فضلا عن تدبر أمر الآخرين في حال استثنائي.

وفي ظل اشتداد كرب العجوز، ومنظر الجثتين الذي يصبحها ويمسيها، وأصوات القصف المرعب، وشح ما في البيت من طعام وشراب، قرر "عبدالحليم" أن يستجمع قواه ويخرج إلى الشارع، لعله يجد من يساعده، فما كان من القوات المهاجمة إلا أن اعتقلته، دون أن يدري ما السبب أيضا، ويتضح في بداية المقطع الذي صورته "قوات سوريا الديمقراطية" أن عناصرها إلى بيت خاو، إلا من العجوز وجثة ابنها وابنتها.

وكونه على تماس مباشر مع قضية أبناء مدينته، ومع هذه الأسرة بالذات، يحاول المصدر أن يفسر لنا بعض العبارات والتصرفات التي بدرت من العجوز، ومنها "توسلها" المتكرر إلى عناصر "سوريا الديمقراطية" وتوجسها البالغ، وتكرارها عبارة "ماتوا موت ربهم" رغم علما أن أولادها قتلوا بفعل فاعل.
وكشف المصدر أن جلّ هذه التصرفات نابع من قساوة التجربة التي عاشها "التدامرة"، فهم في كل مرة كانوا مطالبين بإثبات "براءتهم" لكل من يجتاح مدينتهم، حتى اختلطت عليهم الأمور، وباتوا يطلبون "السلامة" بأي ثمن كان؛ لكثرة ما لدغوا من جحور مختلفة.

وأكد المصدر أن الثمانينية "آمنة" وابنها البسيط "عبد الحليم" أعجز من أن يميزوا "هوية" العناصر الذين يقفون أمامهم (تنظيم، نظام، تحالف.. إلخ)، ولذلك كانت العجوز تخاطب من أمامها مطالبة ببنتيها، كما كان حرصها في بداية الشريط -وابنها في نهايته- على الحديث بعبارات عامة، وبملامح يعلوها التوجس والحيرة.

وبناء على وطأة الخوف متعدد الوجوه الذي غزا "التدامرة"، يمكن لنا أن نفهم أيضا كيف حاولت العجوز في آخر المقطع أن تقطع استجواب الصحافية لابنها، وتكف لسان السؤال عنه، آمرة الصحافية أن تنظر إليها باعتبارها "عطيلة" (مشلولة بلهجة التدامرة)، مخافة أن يزل لسان الابن المسكين بكلمة يحاسب جرءاها حسابا عسيرا، وهو لايدري "تقدير" ما يقوله في ميزان "القادمين الجدد"، فقد خبر أكثر من تعريف للولاء والوطنية والكفر والإيمان و.. و...، وحوسب على تلك التعريفات من هنا وهناك، دون أن يدرك حتى الساعة لماذا وعلى ماذا حاسبوه.

وختم المصدر مؤكدا أن فداحة مصيبة هذه الأسرة، لايدركها إلا من عرفهم، أو حاول تخيل شعور عجوز عاجزة ترقد بجانب جثتي ابنيها مدة أسبوع تنظر إليهما ونار الكمد تنهش كبدها، والشفقة على ابنها "عبد الحليم" تؤرق جفنها، والحنين الممزوج بالرجاء يشغل قلبها على البنتين المصابتين وشقيقهما، ورائحة تعفن الجثتين تزكم أنفها، وصوت القصف يكاد يصم أذنيها، وترقب هوية "القادمين الجدد" ومحاولة اتقاء شرروهم يشغل روحها.. روحها التي عافت تمدد الظلم بكل أنواعه وألوانه وتصنيفاته، وباتت تتوق إلى بصيص عدالة ونور كتوق مشرف على الهلاك لقطرة ماء وسط بيداء.

إيثار عبدالحق - زمان الوصل - خاص
(290)    هل أعجبتك المقالة (224)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي