من خلف كوّة صغيرة أطلق المعتقلون عليها اسم "النافذة ذات الجفن المعدني" في سجن "الشيخ حسن" بدمشق كان المعتقل السابق "عدنان المقداد" يختلس نظرات خاطفة إلى العالم الخارجي علّها تعيد له شيئاً من أمله المفقود في هذا السجن السري الذي جمع ثنائية الموت والحياة لإطلاله على حركة الناس والشارع بكل ما فيها من نبض وحيوية من جهة، وعلى قبور ودّع أصحابها الحياة من جهة أخرى، في مفارقة تختصر حياة الاعتقال داخل السجن الذي كان في الماضي يُدعى "كركون"(كلمة تركية تعني سجن تحت الأرض)، وما زال مأهولاً بالأموات والأحياء معاً إلى هذه اللحظة.
ذات يوم من عام 1980 وفي ذروة الاحتجاجات على نظام الأسد الأب تم اعتقال الشاعر المقداد المنحدر من مدينة "بصرى الشام" بريف درعا على خلفية إلقائه لقصيدة في "المعهد العالي للعلوم السياسية" في مدينة "التل" طالب فيها بالحريات العامة وعدم الاعتداء على المواطنين السوريين والكف عن اعتقالهم دون سبب أو قتلهم.
ومُنع الشاعر الشاب حينها من إلقاء الشعر في الجامعة، وآنذاك تعرّف -كما يروي لـ"زمان الوصل"- على أحزاب وناشطين ومن ضمنها الحزب الشيوعي السوري الذي أُعجب بأفكاره ومبادئه وبرنامجه الذي لقي صدى كبيراً في سوريا آنذاك، كما يقول.
بعد شهرين من الأمسية تقريباً وإثر محاولة اغتيال فاشلة تعرّض لها "حافظ الأسد" على يد أحد حراسه، بدأت حملة اعتقالات بحق أعضاء ومناصري الحزب الشيوعي السوري بضوء أخضر من السوفييت، وبدأت هذه الحملة باعتقال الدكتور "فايز الفواز" و"عمر القشاش" أبرز قياديي الحزب، وكان حافظ الأسد -كما يقول محدثنا- مصرّاً على اعتقال "رياض الترك".
وأردف المقداد أن الحملة كانت فاشلة في بدايتها لأن مخابرات النظام فشلت في اكتشاف خلايا الحزب والوصول إليهم، ولكن بعد أسبوعين استلم الملاحقات فرع المنطقة العسكري وتمكّنوا من كشف هذه الخلايا للحزب، ولكنهم كانوا يريدون "رياض الترك" بالدرجة الأولى ولم يتمكنوا من اعتقاله حتى نهاية الشهر العاشر من ذات العام.
انضم المقداد حينها حديثاً للحزب الشيوعي السوري ولم تكن تجربته في التخفي قد نضجت بعد، وشعر في منتصف تشرين الأول/1980 بأنه سيُعتقل في اليوم ذاته فودّع أصدقاءه، وبالفعل حاصرت قوة من المخابرات العسكرية منطقة "القابون" منتصف تلك الليلة، وفوجئ بطرقات عنيفة بكعوب الرشاشات على باب منزله فاستيقظ بحالة من الرعب الشديد، وما إن فتح الباب حتى داهم العناصر المنزل وبدؤوا يفتشون كل ركن فيه ويسألون عن "الختيار" وهو اللقب الذي عُرف به "رياض الترك" الذي كان مختفياً وكانوا يظنون أنه موجود لديه.
اعتُقل المقداد بداية في فرع "المنطقة" لمدة أسبوعين وهناك تعرّض لتعذيب شديد -كما يقول– قبل أن يتم نقله إلى سجن "الشيخ حسن" في مقبرة "الباب الصغير" بدمشق، حيث بقي هناك لمدة يومين ليُنقل فيما بعد إلى سجن "القلعة" الذي أمضي فيه أربع سنوات وأعيد بعدها إلى سجن "الشيخ حسن"، الذي كان أحد السجون القاسية ويقع جزء منه داخل مقبرة "الباب الصغير" والباب الرئيسي على الطريق العام، وكان محروساً جدا ولم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منه.
العثمانيون
ويعود تاريخ السجن الذي يقع في الشارع الواصل من سوق "الحميدية" إلى دوار "باب مصلى" إلى عهد العثمانيين، حيث كان عبارة عن مخفر للدرك التركي أُطلق عليه اسم "كراكون" والى جانبه اسطبل للخيول، واستخدم السجن فيما بعد خلال عهد عبد الناصر كسجن ومكان لتعذيب معارضيه، ويُقال إن "فرج الله الحلو" تم تذويبه بالأسيد أيام "عبد الحميد السراج" داخل السجن ذاته فترة الوحدة بين سوريا ومصر حين شن عبد الناصر حرباً على الشيوعيين.
ويتذكر محدثنا جوانب من اعتقاله في سجن "الشيخ حسن"، الذي كان مكوناً من طابقين تحت الأرض وطابق علوي واحتوى كل طابق منهما على 14 زنزانة وجماعيتين أحدهما في الطابق الأرضي وجماعية في الطابق الأعلى، وكانت كل جماعية تتسع في الحالة العادية –كما يقول- لنحو 10 إلى 15 معتقلا.
ولكن القائمين على السجن وإمعاناً في إذلال معتقليه كانوا يحشرون في كل جماعية حوالي 40 شخصاً لدرجة أن المعتقلين لم يكونوا يستطيعون الوقوف أو الجلوس أو النوم فيتنابون على النوم والجلوس، وللمفارقة أن من كانوا يُسجنون في المنفردات كانوا –كما يؤكد محدثنا- يشعرون بالارتياح أكثر وهذا ما دعاه لطلب نقله إلى إحدى المنفردات، حيث أمضى هناك أربعة أشهر، وكان –كما يروي- على تواصل يومي مع المعتقلين الآخرين من خلال "الشراقات" وهي فتحات في أبواب الزنزانات كان المعتقلون يسمونها "النافذة ذات الجفن المعدنية" -بحسب وصف الكاتب الراحل شريف حتاتة في روايته عن السجن.
وأشار المقداد إلى أن هذه الشراقات كانت تتُرك مفتوحة في الأحوال العادية، ولكن سرعان ما يغلقها عناصر السجن عندما ينزعجون من المعتقلين كعقوبة لهم، وكان مدير السجن صف ضابط برتبة مساعد ويتصف -حسب وصف المقداد- بالجبن والخوف من ضباط الأمن السياسي الذين كانوا يترددون على السجن للتحقيق مع معتقليه، ولكنه عندما يتولى تعذيب السجناء كان يتحول إلى وحش وكائن بلا رحمة.
ومن أدوات التعذيب التي كانت تُستخدم داخل سجن "الشيخ حسن" -كما يقول المقداد- دولاب "كاوتشوك" كان المعتقل يُوضع فيه ويفقد القدرة على الحركة، فيتم تعذيبه بالسوط أو الكبل الرباعي وبعد الانتهاء من حفلة التعذيب يتم رميه في بحرة كبيرة وسط باحة السجن وبعد إخراجه يعاود الجلادون تعذيبه ثانية فيصبح التعذيب قاسياً وشديداً مع ابتلال الجسد والضرب العنيف بالسياط.
أمضى المقداد سنة في سجن "الشيخ حسن" وخلال هذه الفترة سُمح للمعتقلين بالزيارات ولكنها كانت -كما يقول- مراقبة بشدة، حيث يجلس في الوسط عنصر أمن والأهل خلف شبك على اليمين والمعتقل خلف شبك على اليسار، وكان العنصر يراقب ويستمع لكل ما يُقال ويمنع أي كلمة ملغزة أو غير مفهومة وكانت الزيارة التي تقتصر على فرد واحد من عائلة المعتقل، ولا تستغرق أكثر من 10 دقائق.
كان نزلاء "الشيخ حسن" منعزلين عن العالم لدرجة أنهم -كما يؤكد المقداد- لم يسمعوا بمحاولة الانقلاب التي حاول رفعت الأسد القيام بها ضد شقيقه حافظ، وكانت كل وسائل الاتصال ممنوعة داخل السجن بما فيها الأوراق والأقلام والصحف وأجهزة الراديو والكتب.
*الكتابة بأعواد الكبريت
وكان محدثنا -كما يقول- يلجأ إلى أعواد الكبريت ليكتب نصوصه الشعرية وقصصه بفحمها بعد إطفائها على ورقة الدخان الذي كان يتم إدخاله خلسة إلى الزنزانات، مشيراً إلى أنه كتب في سجن القلعة ثلاث أو أربع مجموعات قصصية، لكنه أتلف أوراقها ولكن تجربته المميزة والجريئة بهذه الطريقة كانت داخل سجن "الشيخ حسن".
وروى محدثنا أن ورقة من أوراقه الصغيرة سقطت ذات يوم على الأرض ووجدها السجان الملقب بـ"أبو عيد" فجنّ جنونه وتحول إلى وحش لا يعرف الرحمة.
ويعيش "المقداد" اليوم في غرفة صغيرة قرب العاصمة الأردنية عمان بعيداً عن وطنه.
وفي نهاية العام الذي أمضاه في سجن "الشيخ حسن" شارك مقداد في إضراب حتى الموت عن الطعام واستمر الإضراب لمدة أربعة أيام، ووصلت أخباره إلى المستوى الدولي، ما اضطر النظام بعدها لنقلهم إلى سجن "عدرا"، حيث أمضى هناك عشر سنوات وتم إغلاق سجن "الشيخ حسن" بعدها مؤقتاً ليعاد فتحه بعد اندلاع الثورة ليستوعب جيلاً جديداً من ضحايا نظام الأسد.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية