قد يكون العقد الاجتماعي بأبسط صوره وشروطه الرابط المناسب للسوريين في سوريا ما بعد الثورة، لسوريا ما بعد الأسد ونظامه الذي طيّفها وفرض على شعبها التقسيم بطرق متعددة حتى ما قبل الثورة.
عشرات الدول في سوريا، لو حاولت أن أكون دقيقا وموثّقا بذاكرة خارقة وأرشيف كبير سيفوتني بالتأكيد ذكر بعض الممالك فيها، وأسهل تلك الدول تذكّرا هي القائمة على أساس قومي أو طائفي، وهذه تتجاوز العشرة.
أما ما يصعب حصره بدقة فهي التقسيمات القائمة على أساس اقتصادي وحزبي ومهني وإقليمي حتى ذلك الذي يقوم على ثلاث أسر في قرية نائية، أو حي صغير في أي مدينة.
أليست امبراطورية "رامي مخلوف" الاقتصادية دولة، وكذلك شركة "الجود" وموظفوه، ألا تعتبر كل قبيلة نفسها مشروع دولة، أما الحزبيون فهم كينونات منطوية على ذاتها.
في كل هذه التقسيمات ما كان يدل عليها كل الوقت، كان الحوارنة يشكلون كتلة انتخابية متآلفة في أي تجمع خارج مدينتهم، وكذلك دروز السويداء، وعلويو الجبال، والأدالبة، وأكراد الشمال وشركس وتركمان الشتات.
في الجامعة ومؤسسات الدولة تتشكل الشلل على أساس طائفي وإقليمي، معلنة دولا داخل التجمعات الصغيرة، ترفض فتح الحدود ولا تتجاوز العلاقات فيما بينها الصبغة الدبلوماسية.
ويمكن الحديث عن جمهورية النقل البري في الرستن، ومملكة الإعلام الإدلبية، ومنتجي البندورة في درعا، وأباطرة الذهب والصرافة، وصناعيي حلب، وتجار دمشق، وفلاحي الحسكة.
نظام الأسدين الأب والابن أدرك هذه الحقيقة، وبذل جهدا كبيرا لزيادة المسافة بين هذه المكونات، فأبرز معالم كل منها، وعزّز وجوه الخلافات بينها، بما يبعد احتمال تقاربها تحت أي صيغة، وربط مصالحها به، وأظهر لكل منها على حدة أن مستهدفة من الآخر، وأنه الجهة الوحيدة القادرة على حمايتها.
لقد فرض النظام بالقوة والإرهاب وحدة السوريين في الظاهر، لأنه كان يريد أن يحكم أكبر عدد من البشر وأوسع مساحة جغرافية ممكنة، رغم أنه تنازل عن الجولان لإسرائيل، إلا أن هذا التنازل كان شرطا لاستمراره في حكم السوريين كل هذا الوقت.
ومنذ انطلاقة الثورة حاول نظام الأسد استمالة فرق من السوريين على أساس اقتصادي حينا وجغرافي حينا آخر وطائفي أو قومي كذلك الأمر.
استطاع توجيه الثورة وقادها بشكل مباشر وغير مباشر، كان قائدا مميزا، حقق أهدافا ربما فاقت ما خطط له من فرقة وتقسيم، فجعل "الحميماتي" أبو فلان رئيسا لهيئة شرعية، وبائع الدخان شيخا وأميرا لقاطع ما، واللص أبو فلان قائدا لكتيبة الصحابي الجليل"...." زعيم القرية "س" أو رئيسا لجمهورية الحي "ع".
ساعد أنصاف الثوريين النظام في زيادة فرقة السوريين، وأسهم ضعاف النفوس اللامنتمين إلا لمصالحهم الشخصية في تحقيق أهدافه بالشرذمة التي تمنع انتصارهم، وتسّهل هيمنته عليهم.
ومن جانب فريقه أغرى قياداته العسكرية والمدنية بإقطاعات جغرافية وتجارية تقوم على تعفيش كل شيء، والتحكم بالبشر والحجر، وسرقة الموارد الظاهرة والباطنية، وتجارة الممنوعات حتى أعضاء البشر.
اليوم، في كل مدينة خمس دول، وفي كل قرية ثلاث إمارات، وبلغت المسافة بين السوريين مداها الأقصى التي يصعب معها "وقد يستحيل" إعادة جمعهم تحت علم واحد وفي جغرافية واحدة.
لن يقبل بشار الأسد وضباط جيشه والحميماتي والشيخ واللص التنازل عن سلطاتهم طواعية، ولن يحصل ذلك إلا بالقوة، وهذه تقتضي حروبا ومعارك لا حدود زمنية لها، يسقط فيها الكثييرون، وهذا ما يجعل تقسيم سورية إلى عشرات الدول خيارا أفضل من ذلك.
إن الإمارات السورية أو اتحاد الجمهوريات أو الكونفدرالية، ولتكن الفيدرالية أو التقسيم الكامل إلى عشرات الدول، إن "جهنم الحمرا" أرحم من موت طفل سوري بريء، قسّموها، اجعلوا كل قرية دولة وكل مدينة قارة، فقط ارحموا من بقي من السوريين.
* من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية