تيّاراتٌ غيرُ سياسيّة ... أمل عريضة

تمتمَ تيارُ كهرباءِ النجومِ بصوتٍ متلجلجٍ متقطّعِ الأنفاسِ: آه!.. الخدرُ يسري في عروقي، والكلّ مشغولٌ بموته الخاص. تُرى هل سأجدُ كفناً يضمّ أشلائي المبعثرة تحت هذا العراءِ المحموم؟
ارتجفت كلّ التيّاراتِ المائية من بردى والفرات إلى المسيسيبي وأوهايو وكولورادو.

تردّدت الآهُ في كلّ مكان. اهتزّت لها أعماقُ التيار النابض أبداً.. المقيّدِ بالأسلاك تحت الأرض. قالَ وهو ينبضُ بالحياة الأبدية: الموت؟ إنّه حلمٌ لاأتمتّعُ به!
تيارُ النجوم غاضباً ومحبَطاً: وماذا يجبرك على مواصلة الحياة؟ إن كنتَ لاتخشى الموتَ فمُت.
- أوتظنّ الرفضَ والعصيانَ ينحصران في الحياة أوالموت؟ ربما لايأتي غيرُ الشللِ.
- هل تلمّحُ إلى حالتي البائسة؟

تعرفُ أن لاخيارَ لي. هم يعبثون بقلبي. يوقفونه فجاءة. يدّعون أنّهم يبطئون تنفّسي لأعيشَ أطول، لكنّ أوردتي تبدأ بالتيبّسِ والجفاف.

تلتفّ حولهم كشبكةٍ مظلمة، فيهرعون إلى قلبي يشغّلونه ثانية. لقد تعبتُ من تصرّفاتهم المتذبذبة.
- إنّه الاغترابُ الانتحاريّ. ماذا تتوقّعُ ممّن لم يشهدوا مولدك، ولم يراقبوا درجَ خطواتك الطفلة ؟!
- لاتذكّرني بما انقضى من عهدٍ جميل! جئتهم أنضرَ مايكونُ الشباب.. في الخامسة والعشرين من عمري، فاستقبلوني بالزغاريد والأغنيات، وراحت كلّ مدينة تتزيّنُ لي. تقفُ على رؤوسِ أصابعها لتراني، وتتوهّجُ بين ذراعيّ. وراحتِ القرى تتغاوى إن مررتُ بها. كان عمري بينهم مليئاً بالطموح والأحلام والرغبات. لاأعرفُ كيف تبدّلت قلوبهم ورؤاهم! أورثوني اضطراباً في ضغط الدم.. تارة أهبطُ في سباتٍ، وتارة يرتفعُ ضغطي إلى تخوم التجلّط والشلل.
- كأنّ قتلك المتواتر وحياتي الأبدية لايختلفان!
- سمعتُ أنّك حاولتَ الانتحارَ مرّة.
- لم يكن انتحاراً ياصديقي. كان عشقاً استبدّ بي. رأت فيه الأمّة تهديداً لوجودها وقيمها الحضارية فحاربته.
- ظننتُ حكاياتِ العشق ماتت في بلادِ العم سام، وهذا مادفعني منذ قرنٍ من الزمن للرحيل واختيار موطن الهوى والغزل هذا.
- كأنّك أمسكتَ بقلبي وهصرته. أثرتَ شجوني يارجل!
- هلاّ سرّحتَ عن نفسك، وأرسلتَ تلك الآهات الحرّى قبل أن تحرقَك؟ أرغبُ فعلاً بسماعِ حكايتك.
- منذ أربع سنواتٍ- وكانتِ الأمة تحضّرُ للاحتفال بعيد ميلادي الخامس والعشرين بعد المائة، والشيبُ سرى في شعري كله، والقلبُ تعبَ من ديمومة نبضٍ بلا معنى، والروحُ ملّت صمتيَ البليد الذي جعلها تتشنج وترتجف على الدوام- اقتربتِ الشمسُ كثيراً من أفقي، وراحت تسوطني بأشعتها اللاهبة. اعتدتُ على أعراضِ غيرتها تلك، فارتشفتُ الألمَ دون شكوى، لكنها لم تتوقف عن المجيء يومياً لتضربني. تشققَ جلدي، وأحسستُ بدماغي ينفجرُ جارفاً كلّ قواي بعيداً.

ترنّحَت بعضُ مخاوفي فوق فروع الأشجار. أردتُ أن أعودَ، لكنّي وجدتُ نفسي في عالمٍ غريب. خالجتني متعة الحرية، وأغراني الانعتاقُ من الجسد.

اهتزّ القلبُ لحظاتٍ لمرأى العصافير تقفزُ حولي. انفلتّ في الأجواء معها. اعتليتُ كتفَ غيمةٍ سوداءَ قريبة. اهتزّت تحت أضلاعي وكادت تسقط مزمجرة. تركتها وأمسكتُ بعنق ريحٍ صيفية. تأرجحتُ معها ورحتُ أغيظُ الغيمة السوداء. تبعتنا معربدة.

هربنا ضاحكين. رشّتنا بالماء. ضحكنا أكثر وأخرجنا ألسنتنا. ولماّ رأيناها وهَنت أشفقنا ورضينا أن تلعبَ معنا.
ظلّتِ الشمسُ الغيورُ تنظرُ إلينا من عرشها العالي ساخرة من شقاوتنا الصبيانية، ومستمرّة في معاقبتنا باللهبِ الخانق.

تذكّرت وطني الذي مزّقَته. أردتُ أن أعودَ، لكنّي نسيتُ أين علّقتُ آثارَ خطواتي النابضة. أضعتُ طريقي وهمتُ ساعة في الأرض شريداً. لم يعد يشغلني عنادُ الشمس. تماهيتُ في اللهو وتركتُ نفسي للسحبِ الصيفية و الريح تجرفني في كل صوب.
أمام أحد المخازن التجارية التي كبرت وتوسّعت في غيابكَ توقف بي تيار الريح. كنّا قد رأينا حسناء رائعة الجمال تلجُ المخزن بسرعة. نظرتُ إلى التيار المفتون.

بادلني النظرَ بكثيرٍ من الأسى. قالَ إنّه لايستطيعُ الدخولَ معها فالاسمنت يأكلُ روحَه. وكذلك تراجعتِ الغيمة السوداء. وثبتُ من على أكتافه وانسللتُ إلى وشاحها الموسلين الأخضر بلون الفستق.

كانت عيناها أيضاً خضراوين زيتونيتين.. غابتان راحتا تطوفان من قسم إلى آخر، وهي تملأ عربة كبيرة بأشياءَ مختلفة. عمري قرنٌ وربعٌ من السنين تشابكت وانهمرت في شلالات شعرها الذهبي الناعم. لم أعد أذكرُ لون عيني إديسون- أول وجه طالعني في وجودي- ونسيتُ كم من الأشياء نسي في سبيلي. امتلأتِ العربة وتوجّهت فتاتي إلى قسم المحاسبة.

كان هناك ثلاثون موظفاً.. بل أربعون. وأمام كلّ منهم جهازٌ الكترونيّ، والناسُ يقفون أرتالاً وصفوفاً أمام هؤلاء الموظفين. سمعتهم يقولون إنّ الطاقة غائبة منذ ساعاتٍ والأجهزة لاتعملُ. تصفّحَت جميلتي بعضَ مجلاتٍ عُلّقت على حاملٍ كبير جانب الموظفة. انتقت واحدة واستغرقت في القراءة. شدّتني أحاديثُ الواقفين. سأل رجلٌ مسنّ يجلسُ على كرسيّ ذي عجلات:" متى ستعودُ الطاقة"؟
ردّ آخر أحمرُ الوجه حليقُ الرأس بشكلٍ كاملٍ مما جعل أذنيه تبرزان كثيراً:" لاأحد يعرفُ. الانقطاعُ يشملُ ثماني ولاياتٍ". اندفعتِ امرأة متوسطة العمر ناهدة الصدر بشكل لافت للنظر تتكلّمُ بحماسٍ وشيءٍ من الإثارة:" لقد توقفت جميعُ محطات التلفزة والإذاعة عن البث والإرسال.

عاد قليلٌ منها كال التي تملك مولدأ لتغطية الحدث، ولتوجيه رجال الشرطة والإسعاف إلىCNN
أماكن الحوادث. إنطفاءُ شاراتِ المرور تسبّب بفوضى رهيبة في السير. وكثيرون لايزالون حبيسي المصاعد الكهربائية. معظم المشافي لاتستطيع مع ذلك أن تقدّمَ إلا مساعدات بسيطة بسبب توقف أجهزتها. ياإلهي لاأصدّق"!
أومأت أخرى برأسها. كانت بدينة جداً. ترتدي شورتاً قصيراً وبلوزة مكشوفة الصدر ومعظم الظهر، وقد تناثرت حبّاتُ العرقِ على ذراعيها، وتدحرجت أخرى على الصدر، فبدت كأنّها قادمة للتو من المسبح. قالت بصوتٍ عميقٍ كأنه صلصلة نحاسٍ تحت الماء:" أخبرتني والدتي بالهاتف أن بعض المطارات توقفت، وأنّ جميع المصانع والمعامل ومعظم الشركات والبنوك في نيويورك ونيوجرسي وأوهايو وهنا في ميشغن توقفت أيضاً".
قاطعتها ناهدة الصدر:" حتى آلات الصرافة في الطريق... ياإلهي"!
عادت البدينة تقول:" هل كنّا نتخيّل هذا؟ انقطاعُ التيار يمتدّ من كندا إلى الشمال الشرقيّ والمتوسط للولاياتِ، ولاأحد استطاع فعلَ شيء حتى الآن"؟!
ناهدة الصدر:"يظنون أنّ ارتفاعَ الحرارة المفاجئ وما رافقه من استخدامٍ واسع لمكيفات التبريد هو السبب. لكن لِمَ لم يحصل هذا في الجنوب"؟
حليقُ الرأسِ:" إنّهم يظنون أشياء كثيرة، وأظنّ السببَ سوءَ تخطيطٍ أوتنفيذٍ للمشاريع الكهربائية". ثم أضاف كمبشّرٍ يعلنُ النذير:" انتظروا الخسائرَ المادية.. فهي قادمة وستعيدنا للوراء سنوات"!
اتجهت أنظارُ الرجال إلى معشوقتي الجميلة الهادئة.. الوحيدة التي لم تشاطرهم الحديثَ وبقيت غارقة في صفحاتها. أراد بعضهم لمسها. جنّ جنوني. دفعتهم عنها. ارتدّت إليّ وهي تنتفضُ كعصفورٍ صغير. راح البعضُ يبتسم، بينما قالَ آخر ممازحاً:" لعلّك من صادرَ الطاقة"؟!
عندما وصل دورنا كانت الموظفة على وشك السقوط إعياءً. سجلت في دفترٍ
المبيعاتِ قطعة قطعة ورقمَ بطاقة التأمين الخاصة بحبيبتي.. ليندا.
لماّ خرجنا كانتِ الريح قد هدأت وراحت تسرّي عن الغيمة المحتضرة وقد شحبَ وجهها من كثرة مافقدت من دماء روحها الشفافة. انطلقنا في سيارة فضية صغيرة. توقفت ليندا أمام محطة وقود. حاولت إدخالَ بطاقة التأمين في الجهاز. سحبَتها وعادت تنثرُ الكلماتِ غاضبة:" اللعنة! أين سأجدُ محطة وقود مزوّدة بموظف، وتعملُ دون كهرباء"؟
ألقينا المشتريات على طاولة الطعام، وتمدّدنا على الكنبة الكبيرة في الصالة. أمسكَت ليندا بجهاز تحكم التلفاز ثمّ ألقته بعيداً. تحدّثت بالهاتفِ مع رجلٍ. كان خطيبها. سألته كم يحتاج للوصول إليها. أجابَ إنه منذ ساعتين عالقٌ بالزحمة. فهمتُ أنهما متفقان أن يقضيَ إجازته معها. تملّكتني الغيرة وشعرتُ بالخيبة. كيف لم يخطر ببالي أنّ هذا الجمال الباهر لابدّ له من متعبّد؟!
بعد أكثر من ساعة وصل روميو- أقصد روبرت- من مدينته البعيدة. حركاته وهو ينزل من سيارته تنمّ عن خيلاءٍ وغرور. وملامحه بدت لي أكثر قسوة وحدّة.

لم أحتمل أنّ رقتها ستذوب في غطرسته. كرهته من النظرة الأولى، وجنّ جنوني لماّ رأيته مقبلاً لمعانقتها. لم أدرِ بنفسي إلاّ وأنا أدفعه بعيداً عنها. فوجئ، ثم ضحك ببلاهة واقتربَ ثانية. قرنٌ وربعٌ من الوحدة والحرمان اشتعلت في روحي، ولم أعد أستطيعُ إيقافَ مجرى النار في قلبي. دفعته بقوة أكبر. ذهل وراح يتمتمُ بعباراتٍ غبية:" أنتِ مشحونة بطاقة عالية. ألا أستطيعُ الاقترابَ منك"؟!
وهو يضعُ مايحمله من لفائف الطعام على المائدة، لاحظ المشتريات الكثيرة، فعلّق قائلاً:" لِمَ كلّ هذه الأطعمة المتجمدة؟ أتخشين اندلاعَ حرب"؟!
- المخزن خاف من تلفها بعد انقطاع التيار، فأعلن عن خفضٍ كبير في أسعارها.
- وماذا ستفعلين بها لو استمرّ انقطاعُ التيار؟
أجابت بدلال: لن يستمرّ. هل نسيتَ أنّ خطيبي أعظم مهندس كهرباء في الولاية؟
- لكنه بات مهملاً في عمله بسبب ضغطِ أشواقه لحبيبته البعيدة. ثم أضافَ: إذا لم يعد التيار غداً، أتوقعُ أن يطلبوني.
- حتى لو ساد الظلامُ أمريكا كلها لن أسمح لك بالذهاب. فليعيشوا يوماً آخر في عصر روميو وجولييت.
- لاتتباهي إذاً بخطيبك!
جرحني كلامها. لقد حللتُ في جسدها، أماّ روحها فظلّت بعيدة عن قبضة شيخٍ فاجأه الحبّ في انحدار العمر. حاول معانقتها فدفعته ثانية. أمسك برأسها وجذبها نحوه من شعرها. صفعتُه بقوة، فوقعَ على الكنبة مذهولاً. هتفَ:" هل مسّك الشيطان"؟!
جلست حبيبتي حزينة على الطرف الآخر من الكنبة. أحسستُ بأبوّة طاغية نحوها، وأقسمتُ أن أحميها من قسوته.
قال بعد لحظات:" أظنني بحاجة لكوبٍ من القهوة المثلّجة".
أجابت بأسى:" هل نسيت؟ لايمكن استخدام أي آلة لتسخين الماء وصنع القهوة، والثلجُ لابدّ أن يكون ذاب في البراد".
- اللعنة! ماذا سنفعل؟ لاتلفاز. لا انترنت. لاقهوة. لا حبّ. أيّ إجازة هذه!
- تعالَ نخرج!.
- مجنونة! هل تتخيلين حال الطرقات الآن؟ عشرات السيارات كانت متوقفة لنفاد وقودها ممّا أعاقَ السير. بصعوبة وصلتُ إليك!
- لم أظنّ أن الموضوعَ بلغَ هذا الحد! المكتب أغلِقَ باكراً. أنجزنا ما استطعنا من أعمال لاتحتاج كهرباء. طبعاً لم يكن متاحاً لنا غير استخدام الهاتف. ذهبت في طريقي إلى المخزن، وسمعتُ الناسَ يتحدّثون عن كوارثَ. ظننتهم يبالغون كعادتهم حبّاً بالثرثرة، فلم أعرهم اهتمامي. وأنتَ لم تخبرني كثيراً عن الازدحام الذي أخّرك.
- كان قطارٌ عالقاً في نفق ديترويت، ومئات من رجال الشرطة والإسعاف يحاولون سحبه إلى أقرب محطة. الاستراحات على الطرق غصّت بآلاف الناس، وكان عليها أن تتخلّص من أطعمتها، فراحت تحضّرها كيفما اتفق، وتقدّمها للناس بأسعار رخيصة جداً.
- ألا يمكن أن نجدَ حانة قادرة على تقديم الشراب على ضوء الشموع؟
- بلا هناك الكثير. لكن لن أصطحبك لمكان مظلم يعجّ بمئات السكارى. الكلّ جنّ هذه الليلة. الطاقة هي عصبُ أمريكا، وقد تلفَ الآن! يمكنك أن تقولي إنّ أمريكا.. الساحرة الالكترونية أصيبت بشللٍ مازالت أسبابه غامضة.
تناولا تلك السندويشات الرخيصة التي أحضرها معه.

طلب منها أن تخلعَ بلوزتها الشيفون الرائقة كعصير توت مصفّى، وحاول معانقتها مجدّداً. غمرتُها بروحي المرتجفة. تسرّبتُ داخلَ الجسد البهيّ. أضأته بأشواقي المتقدة، وطردتُ ذاك الخطيب المتفلسف. نام وحيداً على الأرض مفترشاً حقيبة نومٍ قديمة، كما نامتِ المدنُ المظلمة نوماً غريباً لاأحد يسمعُ تنفسها.
نهضَ روبرت في الصباح على إيقاع لحن راقص ينبعثُ من مسجّل صغير زوّدته ليندا ببطارية.

دعته لمشاركتها تمارين اللياقة السويدية، ثم تذكّرت فجاءة:" لاماء دافئ للاغتسال"! أجابها وهو ينضمّ إليها:" لاعليك. إذا أصبتِ بالبرد سأدفئك. درجة حرارتي فاقت حرارة مدننا بكثير". لكنّ الأمورَ لم تأتِ كما يشتهيان. إذ سرعان ماانقطع تيارُ الماء البارد أيضاً عن الحمّام. قالَ محبطاً:" مضخّاتُ الماء الرئيسة كلها كهربائية. لايمكن للماء أن يصلَ دون قوّة ضغط. آتية إذاً مشاكل الصرف الصحي.

 ربما سيضطرون إلى تحويل المياه الوسخة إلى الأنهار. أيّ تلوّثٍ سنعاني منه في الأيام المقبلة!

إنّ مايحدثُ بقدرِ ماهو معقولٌ ومنطقيّ يبدو أشبه بالخيال. كأنّ كلّ تلك السنين التي قضيناها في توليد الطاقة تنتهي إلى هذا الخراب والعجز! مصائبٌ تتوالد بسرعة تفوقُ سيلَ الالكترونات".
اقتربت منه ليندا . وضعت يدها على رأسه برقة. اندلعَ برقٌ في شعره. كاد يحترق. وثبَ مرعوباً، وظهرَ شيءٌ من الخبل في تصرفاته. أخذَ يحدّقُ فيها بحدّة. كلّمته فلم يسمعها. شيءٌ ما يموجُ في عقله. قالَ فجاءة:" أنا ذاهبٌ لأخلّصك من الشيطان. سأبحثُ عن جذوره النازحة، وأعيده إلى القمقم".
وذهب بوب، وبدأت حبيبتي تبكي. كان لدمعها طعمٌ لم أعرفه طوال عمري المديد.

سكنتِ النارُ في قلبي، وصارَ نبضي موسيقا حالمة. استرخى القلبُ وانفتحَ على عوالمها وأشواقها. دمعها بلّلَ شعريَ الأبيضَ بالأسى، وصرتُ أضعفَ من أن أتشبّثَ بجسدها. راحت مساماته تلفظني، وانكفأتُ على حزني وذاكرتي.
عندما استطعتُ أن أراها في ضوء المصباح الذي طرق بابها بلمعتين قبلَ أن يلجَ ويغمرها، كنتُ مبعثرَ النفس يعصفُ بي زبدُ دموعها. مرّ أمامي شريطٌ من الذكرياتِ القاحلة... نبضٌ أبديّ بلا إحساس. لم أكن بحاجة لأفهم أنّ روبرت انتصرَ عليّ. انتزعني من ضفافِ شعرها الحريريّ. قيّدني رجاله بالأسلاك، وأدخلوني في جسدي المتيبّس عنوة، وراحوا يجلدوني بأنباء الموت الذي سرى في المدن. لفقوا لي تهمة غريبة. قالوا إنّ طيشي وجنوني وتحدّيّ للشعاع أبطلَ سحرَ تعويذاتهم، فانتشرتِ الكوارثُ الغامضة في بلادهم. مافهمتُ وماكان مهماً أن أفهمَ. كان عليّ أن أنبضَ إلى نهاية الدهر كما يريدون".
تمطّى تيارُ النجومِ بعد طول رقادٍ وقال متأثراً: لكنّكَ تنبضُ بحبها الآن!
- منذ سجنوني تحت الأرض ثانية، وحرموني رائحة حبيبتي صرتُ أنبضُ بالألم والعذاب.
تيار النجوم مصرّاً: وتنبضُ بحبّها أيضاً. وهذا لعمري خلودٌ جميل! أمّا أنا فقد أبحرتُ على سفينة بلجيكية منذ نحو قرنٍ من الزمن. أوصلتني إلى الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ومشى معي ربّانها وبحّارتها إلى ضفاف بردى مودّعين. ولمّا اطمأنوا إلى استقرار عيشي، زوّدوني بالأماني ورحلوا. أبنائي ولدوا هنا، وسبحوا في بردى والفرات. أحبّوا الناسَ وأقاموا علاقاتٍ مع كل بيت. من قلوبهم المليئة بطاقاتِ الحبّ ولد النورُ والأمل. لاأعرف ماجرى الآن! لماذا بعد هذا العمر يعاملنا بعض الناس كغرباء! يسرقون جمرة الطاقة التي حملناها من بعيد، ينثرون رمادها في العيون. يعبثون بأوراقنا وملفاتنا وهم لايفقهون. ماذا يريدون لاأفهم؟! ربما هذا الظلام الذي يملأ نفوسهم يجعلهم يدورون كالبلهاء محاولين اقتناص النور وحدهم. هل يظنون أنّ النورَ يُشرَب فيمحو عتمة الأرواح؟!
- ومالك لاتعودُ إلينا فتنجو من قطّاع الطرق؟
- لي أصدقاءٌ هنا.. مازالت الريشاتُ الملونة المضيئة تنبتُ على أضلاعهم، وستحملُ أجنحتهم النورَ يوماً إلى كلّ مكان.
- أحبّ طموحَك المتمرّد. متعة اختلافنا أنّا مهما تباعدت دروبنا فروحنا واحدٌ.. يهتزّ على الدوام في مياه الأنهار المتدفقة. إلى موعدٍ قريبٍ ياصديقي.

ديترويت
(139)    هل أعجبتك المقالة (141)

صديقك الالكتروني

2007-08-10

احببت النص جدا حتى اني قرأته اكثر من مرة وفي كل مرة احساس مختلف ... اليوم شربت القهوة العربية بعد المرة الثانية وطحنت قلبلا من الهيل الاضافي ورششته فوقها .لأتحلص من \" امركة \" المادة ولأستطيع هضم افكار الغرب .... تياراتك ورغم اختلافها متفقة على ان تكون شفافة بقدر شفافية المطر الذي تحبينه او على ما اذكر تعشقينه ؟؟؟.


زكوان

2007-08-10

هههههههههه اين هي هذة الشفافية لا ارى الا شعرا مبعثر ليس له مربعات تكفي ان تضعيها في الكلمات المتقاطعة.


نور

2007-08-13

للنص سحر يشبه السحر الذي يمارسه الغرب عموماو أمريكا خصوصا على المواطن العربي عن بعد ولكنه في ذات الوقت يزودنا بواقع يجمع بين الرؤية الواقعية للأمور من الداخل و تحليل فلسفي أدبي منمق لخبايا الحضارة الغربية المزدهرة ظاهريا و الميتة فعلا..


سامر رضوان

2007-08-14

كأنني أرى كتاباً لك قريباً تجمعين فيه موادك المنشورة وتعنونيه (درر الأمل) وكأنني أرى عشاقاً له يكثرون كما يكثر الفراش حين تبتسمين مع احترامي.


الياس جرجوس

2007-08-24

خارج المدارات ترتاح النفس آمنة مطمئنة, علَ السفر في فضاءات اللانهاية , هو الأمل المرتقب , حيث في تقاطع الدروب , تأتلف محارات الأعماق النازفة في غضاضة الرؤية المتهالكة بين السراب . أجمع وجوه الأحياء و الأموات, أرسمها بريشة مغمسة بألوان قوس قزح , أوطرها بإطارات الطيبة و النقاء , وشروق الأيام النضرة المعافاة , فأجد طمأنينة النفوس مرتاحة في أعطاف الوجود . أدور حول مساحات الكرة الأرضية , فأرى صور الخالق , تضرب مداها في الأرض وفي رحاب السماوات السبع , تؤشر للخلق بصحوة المبادئ و الشرائع ويقظة القيم وانسدال الغيوم تحت سقف المجرات متهادية تراقب التائهين المتكالبين على مراح الحياة يعيثون في دروبها فسادا وهم لا يدروا ماذا يفعلون . وها هو الزمن يهرول إلى هنيهات فواحة العبير , يقطف من وعي الخاطر ولون الأرض , نسيمات الشمم وانشطار الرؤى فوق حبيبات التراب , التي من ألق بريقها اشتهاء العيون للغد الأرحب و الأفضل , ولرحابة العيش وطيب اللقاءات . كأن القدر واثق الليل ولا رَدََ للعبة القضاء , حيث العيون عاجزة عن مقاومة المخرز و قلبي مغشي عليه غافي من طول السهاد , جاثية أمام محارب الزمان أرنوا إلى مراتب السماء و أنوارها أبحث عن الحلم المستحيل و خير الوصول . خرارج تياراتك وانا أحب ان اطلق عليها مدارات اقف عاجز في البداية و النهاية - حتى انني بدأت بوضع نقاطتك الأساسية على ورق ... امتعتني حقا ولا انكر ابدا انك اتعبتني ... اشكر ما خط قلمك ونزف حروفك.


roula

2007-08-29

أرى أمل و شفافية و رقة أمل في هذه العبارات .


التعليقات (6)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي