قرأت مشروع وثيقة العهد الخاصة بمحافظة درعا، هي ورقة مرتبكة تشبه بيانا لناشطين كتبوه على عجل، وألفِتُ إلى أن الوثيقة ذات الفصول الثمانية والمواد الخمسين مضافاً إليها ملحق تعبر عن تشوش ذهني، ولا أقصد هنا الطعن بالنوايا، لكن يتداخل فيها القانوني مع الشرعي، وتظهر الرغبة بسطوة عشائرية مع خوف من دور السلاح، وضبابية في الرؤية المتعلقة بطبيعة التداخل بين الجيش الحر والإدارات المدنية، ما يعني أن المجتمعين على وضع الوثيقة لا يملكون قراراً واضحاً حتى اللحظة في مسألة تأثير البندقية على القرار المدني ليترك الأمر غامضاً.
وتطغى على لغة الوثيقة مسألتان اثنتان، الأولى لغة القانونيين وهي مسألة مفهومة، والثانية وجود رغبة كامنة في ترميز الساحة في حوران قبل أن يتضح شكل الحياة المدنية المطلوبة، أي على مبدأ "بيع فرو الدبّ قبل سلخه"، وكأن المشكلة هي في فض صراع على المناصب لا في وضع قواعد تتحدث عن اقتصاد المنطقة وضمانات تحقيق التنمية وتغطية النفقات وبناء القدرات بطرق واضحة وشفافة، والحديث عن الفرد باعتباره القيمة الأهم في التأسيس لبنية اجتماعية سليمة.
لا أظنّ أن أحداً من القوى الإقليمية يقف خلف هذه المشروع، وإلا فإن هذا الأحد يدفع لتوريط مجموعة قدمت نفسها على أنها نخبة، ثم تقدمت بورقة لا تصلح لتأسيس منتدى اجتماعي قروي، أو صالون ثقافي، أو جمعية سكنية.
لاحظت على عجالة في قراءة الوثيقة نقطتين أود الوقوف عندهما للحظة، الأولى ما جاء في الفصل الثاني من تعريف بالإعلام بأنه "وسيلة هامّة، مكفول بموجب نصوص هذه الوثيقة بما يحقق الغرض وبما يخدم أهداف الثورة السورية وعليه يجب الالتزام بقوانين النشر والمطبوعات، وعدم الإساءة"، ولعل كاتبي الوثيقة أرادوا وبلغة إنشائية بليدة إثبات أن الإعلام وسيلة هامة وهو ما لم يكن معروفاً، ومن ثم فإن أهميته تفترض أن تتم كفالته بموجب الوثيقة لا بموجب الأعراف الدولية وما ورد من وثائق تبنتها الأمم المتحدة واتفاق جنيف، ويخلص البند إلى لغة تهديدية للإعلام بعدم الإساءة والالتزام بقوانين النشر، غير أن قوانين النشر المعنية ربما تأتي مع الوقت والخبرة، كما أن خطر الإساءة الأكبر هو الإعلام، وكأنهم لا يعترفون عليه كضامن لكشف الفساد والتعدّي والاستزلام في بيئة تحتاج لمن يركز على الأخطاء ويضمن مسلكاً جيداً لمن اختاروا العمل في الشأن العام.
النقطة الثانية هي اللغة الخائفة من تسمية هذه الوثيقة بأنها جزء من مشروع تقسيمي، ولعل التوضيح أمر مشروع، إلا أن كل لغات العالم وكل العبارات الإنشائية لا يمكنها تطهير الوثيقة من فكرة أنها تؤسس لإدارة ذاتية ولو في فترة مؤقتة، لذلك فإن مسألة التواصل مع المحافظات الأخرى في إطار الجغرافيا السورية يجب أن تأتي قبل كل هذه التفسيرات للتأكيد على الرغبة في خلاص وطني.
وهنا أرغب بالانتقال إلى الحمّى الكوردية التي لا تنفكّ عن التعبير عن ذاتها بطريقة منفعلة، تقوم على تخوين الآخر واستخدام أخطائه كذريعة لإثبات أحقية القومية الكوردية في أن يكون لها كيان مستقلّ، ولا أنكر حقّ الكورد وهو ما لا تنكره شرائع الأرض في الحفاظ على الهوية والثقافة واللغة كما يرغبون، وهذا ليس صكّ تبرئة للغة الشتائم عالية المستوى التي تبدأ بوصف العرب بأنهم يمثلون تيار الإرهاب في العالم أو أنهم خريجو مدرسة البعث، وكأن الكوردي لم يلاحظ أن القيادة القطرية الأخيرة لبشار الأسد تضم خمسة أعضاء دفعة واحدة، وكأن الكوردي يرى إزالة المظلومية بالردح والإساءة، وهذا لا يعفي الطرف الآخر، وأقصد جميع الطرف الآخر، من مسؤوليته عن جانب في لغة الاستفزاز المتبادل، فالكوردي المجروح بهويته لعقود يجد نفسه مضطرا بالرد على عبارات من قبيل "القرباط" والبويجية" بلغة مشابهة، غير أن التعميم يزيد ويراكم من شعور الكراهية.
وما يجب التنبه له إلى أن من حق السوري أن يدافع عن فكرة الوطن الواحد على كامل التراب مهما كانت حجج الآخر وطموحاته وأحلامه، وينبغي أيضا أن يعي الطرفان أن التراشق على صفحات التواصل الاجتماعي لا يحقق انتصارات لكليهما، وسوريا بحدودها القديمة لا يمكن أن تتغير إلا بإرادة جميع أبنائها عرباً وكورداً وغيرهم، وبصندوق شفّاف.
أختم بالقول لأهل حوران والأكراد في آن معاً أن الضابط الأميركي الذي عاين موقع قصف الطائرات التركية لموقع كوردي لن يجلب السلام للأكراد، ولن يساهم في تحقيق حلمهم، أما للناس جنوباً كنت أسأل إن كانت وثيقة العهد قادرة على توصيف توغل دبابات "الميركافا" الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، وما هي القواعد التي اعتمدتها في التعاطي السياسي مع القضايا الكبرى، خصوصا وأن حوران تشهد تداخلا محليّاً إقليمياً دولياً لا أحد يشكّ في أنه يشكل خطراً على سوريا الموحدة التي يتحدثون عنها.. وأزيد بالقول إن الوثيقة بقياداتها التي ستفرزها ذكّرتني بتركيبة "الجمهورية الصعبة" كما ورد في كتاب المفكر طلال عتريسي حول إيران، مجالس وقيادات وخبراء وإدارات وحكم شمولي .. لا تسامحوني فأنا أقرأ بحريّة وأفترض أنني لو كنت أكتب من قريتي في حوران وأنتم تحكمونها لاعتقلتموني .. حسب نصّكم الهزيل بما فيه قواعد عمل الصحافة والإعلام.
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية