أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

شارع عبد القادر عبد اللي*

لحسّ عبد القادر بانتقاء ما يترجم، دورا إضافيا، زاد على أعماله طعم الديمومة والخلود - زمان الوصل

ببالغ الحسرة والأسف، نحن أمة قلما اعترفت بعظامها، إلا بعد أن طوت الأرض عظامها، وكأن لا كرامة لحيّ بيننا ولا نعترف بفضائل الكبار، إلا بعد موتهم، إذ قلما شهدنا تكريماً لحي أو إنصافاً شفوياً لمثقف.

بل، وفي غالب الأحايين، يجري العكس، إذ نمتلك من طرائق الحصار وأساليب المهاجمة، ما يميت المواهب ويضع من يصمم على البقاء والإنتاج، بموقع اليائس الحزين، ربما، حتى على ما أمضاه في البحث والقراءة، في عالم مقلوب يعجّ بالزيف وتغلب على ملامحه الأنانية واستهداف المختلفين.
عبد القادر عبد اللي، واحد من الذين تمردوا على اليأس، وآثر المضي لمشروعه الثقافي الكبير، رغم كل الحصار الذي أوصله يوماً، وهو صاحب ثمانين مؤلفاً وعشرات اللوحات الفنية وآلاف المقالات الصحفية، ربما للاستدانة ليستمر. 

لكنه، لم ينكسر يوماً أو ينبطح ويتملق، ولعل في ذلك اكتمالاً لملامح اختلافه، التي انطلقت أساساً من التواضع وتوجتها بساطة وإنسانية، كانت ولا شك، العامل الأساس بالاحتفاء به، وربما قبل أن يترك من إرث ثقافي.

قصارى القول: لم يحظ متوفى سوري خلال الثورة ربما، بما ناله المرحوم عبد اللي، إن خلال مرضه أو أثناء وبعد وفاته، ما يدفع بأي متابع للسؤال، ترى لماذا احتفى الموالون والمعارضون السوريون بنتاج هذا المثقف، ونعى وحزن الجميع عليه بعد وفاته.

أعتقد أن للجانب المهني دورا مهما أيضاً، فعبد القادر عبد اللي لم يك مجرد مترجم ينقل ما يكتبه كبار الكتاب الأتراك للعربية، بل كان صاحب موهبة قصصية وروائية، تعيد المنتج من مطبخ خاص، يتناسب مع القارئ والمتلقي الجديد، للحد الذي أبطل المقولة المتداولة أن المترجم لا يحفظ اسمه ويبقى جنديا مجهولاً يخدم انتشار الكاتب، ولعل في ارتباط اسم عبد اللي بكبار الكتاب الأتراك، من عزيز نيسين الذي بدأ بالترجمة عن التركية له، وصولاً لحامل جائزة نوبل، أورهان باموق، دلائل على شذوذ تلك القاعدة.

كما أن لحسّ عبد القادر بانتقاء ما يترجم، دورا إضافيا، زاد على أعماله طعم الديمومة والخلود، فأن يتنقل بين حدائق يشار كمال وأورهان يشار وخلدون تنر ويقطف من ورود أورهان باموق "غرابة في عقلي" و"متحف البراءة" بعد أن قدمه للقارئ العربي مطلع التسعينيات برائعته "اسمي أحمر" فذلك، فضلاً عن دخوله بوابات القصة والمسرح وحتى الأبحاث والدراما، ما جعل من عبد اللي يشاطر الكتاب الأتراك شهرتهم.

وأعتقد عندما يؤتى على كبار المترجمين العرب من أمثال، المصري مصطفى ماهر المترجم عن الألمانية، ونعيم عطية عن اليونانية وسامي الدروبي عن الإنكليزية وجورج طرابيشي عن الفرنسية وعيسى الناعوري عن الإيطالية. ليس حتى لجاحد، إلا أن يقول، وعبد القادر عبد اللي عن التركية.

نهاية القول: حفلت مدينتي غازي عينتاب الأسبوع الفائت واسطنبول مساء أمس السبت، بتكريم المثقف السوري عبد القادر عبد اللي، عبر حفلي تأبين بذكرى مرور أربعين يوماً على وفاته، وحاول أهلوه والأصدقاء والمنظمون، خط نهج، يعطي ولو جزءاً مما يستحقه الراحل، ويكون -النهج- بداية تحتذى لمجتمع المثقفين الذين ظلموا قبل وبعد الثورة، ويظلمون أنفسهم اليوم، عبر تحالفات شللية غائية ومحدودة، أو من استمالات لمال سياسي.

ولكن ماذا بعد ؟!
أعتقد أن ثمة أمرين بالقضية، الأول أن يعي المثقفون السوريون خطورة إقصائهم وإشغالهم بقشور التحزبات وفتات المال، لأنهم الحامل الأساس وربما الوحيد لخلاص سوريا وخروجها مما هي فيه، صالحة للعيش والأمل والأحلام، ويوقنوا أن لن يحك جلدهم إلا أظافرهم، فالخوف من المثقفين، مرض ليس محصوراً بالأسد وحده أو الحكام الديكتاتوريين على ما يبدو، بل ينتقل بالعدوى لكل من يمتلك السلطة أو المال ويخشى من قلم وفكر ولسان المثقفين.

وأما الأمر الآخر، فهو السعي لتخليد المختلفين والقامات الباسقة التي يغيبها الموت، ونحن سبايا وغرباء في هذه المرحلة الغائمة والموجعة، إذ ليس من هو أحق من صادق جلال العظم، لتحمل كبرى جامعات دمشق اسمه غداً، كما من حق عامر سبيعي أن يخلد اسمه على معهد موسيقي.

وكذا كلية عسكرية باسم "أبي فرات" ومعهد باسم "حجي مارع"...ليكون من حق عبد اللي علينا، أن يحمل أطول شارع بإدلب اسمه، ليحمل اسم الجسر الذي نقل ثقافة الأتراك والعثمانيين للعرب، طريقاً واصلاً لنهاية مليئة بالأمل تعجّ بصناع الحياة.

*عدنان عبدالرزاق - من كتاب "زمان الوصل"
(174)    هل أعجبتك المقالة (159)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي