أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

هذا القادم ... محمد عبده العباسي

سيقطع المسافة من " نيوجيرسي" محل إقامته حتي " نيويورك " يستقل بعدها الطائرة ليحط برحاله في مصر ، معه زوجته الأمريكية " ماندي " التي تشبه مواطنتها الممثلة القديمة " بيتي ديفيز " هكذا يشبهها أبي ، معهما ولدين أنجبهما عمي في الغربة ماجد وسميح ..
بالطبع لن يذهب أبي لاستقباله في المطار كما لم يحدث من قبل ، ماالحال إذن وقد بلغ أبي من الكبر عتياً ؟.
أعمامي وعماتي شمروا عن سواعدهم وتأهبوا لمراسم استقبال وصفت بالتاريخية :
ـ لقد مرت عليه عشرين سنة بعيداً في بلاد الغربة ..
قالت عمتي روحية وهي تمني نفسها بمزيد من الهدايا ، ثم أردفت :
ـ ابنتي تستعد للزواج ، لابد أنه سيهديها بعض الأشياء ..
عارضها زوجها خلدون بسبب اصرارها علي السفر لإستقبال أخيها ، ثم سمح لها بعد أن استرضته فردد مثلاً غريباً لم أسمعه من قبل ..
جدتي " وهب " راقبت الموقف جيداً وقلبها ثابت في موضعه غير آبهة بشئ مما يحدث حولها وراحت تمط شفتها السفلي :
ـ يا ما جاب الغراب .....
أسكتتها عمتي وهي تضرب علي صدرها خشية أن يسمعها أحد :
ـ لأجل خاطري ..
* * *
بعد السلام والتحية سأل عمي عن أبي ، رد عمي سالم :
ـ لديه بعض الأشغال ، ينهي اجراءات الإحالة للمعاش.
صفر بفمه :
ــ بالطبع سيشتري فيللا بالساحل الشمالي أو يرمم البيت القديم في القرية ليقضي فيه مرحلة الاستجمام كما يحلم .
ـ عدة آلاف من الجنيهات هي قيمة المعاش ، لا تزيد عن عدد أصابع اليدين ..
ـ كم قلت ؟ وكم يبلغ مقابل الدولار ؟
قلت مدافعاً عن أبي في غيظ :
ـ سل عن اليورو ولا تسل عن الدولار ..
كانت السيارة تنهب الطريق نهباً ،عمي القادم من بلاد العم سام يحث السائق بمزيد من السرعة تارة ، وتارة أخري لا يكف عن طرح أسئلة فتأتيه الإجابات بالمجان ودون أن بذل أي جهد ، قلت في نفسي:
ـ كل شئ الآن أصبح بالمجان ..
سألني عمي :
ـ ماذا تقول؟
لم أجب بالطبع ، وعاد يسأل :
ـ كنت أظن أن واحداً من أخوتي قد فتح الله عليه وأصبح من مليونيرات المنطقة الحرة في المدينة .
قالت عمتي روحية التي لم تكف عن الثرثرة ونصبت من نفسها متحدثاً رسمياً بالنيابة عن الأسرة جميعاًَ :
ـ كيف ذلك ؟ الغلاء استشري ولم تعد أسعار زمان سوي ذكريات باهتة..
تمتم عمي بكلمات هامسة مع زوجته التي تدخن في شراهة ، ثم نظر من نافذة السيارة مشيراً إلي الإعلانات الضخمة المنتشرة علي جانبي الطريق بالقرب من مدخل المدينة :
ـ مدينة بكل هذا الحجم من الثراء وتشكون من الغلاء ؟
قالت عمتي وقد انهارت أحلامها وخارت قوي خيلها المتسابقة في برية بلا نهاية :
ـ هل تتصور ؟ هكذا هو الأمر ..
لم يأبه القادم بردها وانشغل مع عجوزه الشمطاء يداعبها تارة وتارة أخري يبادلها الدخان دون مراعاة لشاب مثلي يدخن السجائر خلسة ..
* * *
سنوات عشر تفصلني قبل سفر هذا العم الذي انقطعت كل صلاته بنا ، دارت في رحي نفسي أسئلة تتري تحاصرني عن مغزي عودته الآن :
ـ ما هي أخبار البيت الريفي ؟
قطع حبل أفكاري ، ردت عمتي بتلك الثرثرة المعروفة :
ـ نود جميعاً في بيعه ..
ـ ولماذا ؟
ـ لا أحد يستفيد منه ، بنيان بات خرباً فالكل هجره ، صار موئلاً للحشرات وللهوام ..
ـ هل ثمة مشتر ؟
ـ نبحث ..
* * *
كنت صبياً لم أبلغ الحلم قبل سفره ، وعدني بالسفر إلي هناك حين أنتهي من دراستي :
ـ حالما انتهيت من دراستك مقعدك موجود خلف مكتب في الشركة التي أعمل مديراً لها ..
انتهيت من الدراسة وحياة الجندية ، وظللت في انتظار الوظيفة ، ويراودني الحلم الكامن بعيداً من وراء الأطلسي ،
طالت المسافات وانطوت الأحلام بعيداً ولم العم يف بوعده ..
* * *
حسدني أعمامي وعماتي علي تلك الحظوة التي أتمتع فيها بصحبته ،وأنا أجول في شوارع المدينة يستعيد فيها ذكرياته ورفاق دربه ، يحكي عن " الخائنات " لقلبه ، ينظر بعين ناقدة لكل شئ ويتعجب لتلك العشوائيات التي لم تزل مطلة عند أطراف المدينة كأنه أحد مسئولي البلدية ، حتي صاح في وجهه واحد غاضب :
ـ هل أنت المحافظ الجديد أم رئيس الحي ؟
لم يرد ، قال بعد حين :
ـ رجل غوغائي غير متحضر ..
حمدت الله علي أن الأمر مر بسلام دون أن يقع مالا يحمد عقباه ، ثم قال :
ـ لقد صارت أصوات الناس عالية وزادت الضوضاء ؟
أبناء شارعنا نظروا بإعجاب وبإحترام جم ، حيوا ضيفي ووجوههم تعلوها البشاشة والبشر:
ـ عمي الذي يعيش في أمريكا ..
كنت أقدمه بالطبع لمن خاضوا في سيرتي بأن " اليانكي " سيشري لي لبن العصفور ، خافوا من تكبري عليهم :
ـ سيصعر خده وينظر إليهم متعالياً ..
داعبتهم في لطف :
ـ اسمي جمال ، هل نسيتم ..
رحب بنا قدورة الجزار ووسع لنا مقعدين بجواره :
ـ أهلاً يا باشا ..
صفق لصبيه أن يحضر علي الفور مشروباً بارداً ..
ثم أردف :
ـ أظن أننا التقينا من قبل ..
قال عمي :
ـ ربما .. لكنني لا أذكر متي !!
الشك ساور الجزار فهمس في أذني بينما كان عمي يضع ساقاً فوق أخري غير عابئ :
ـ أليس هذا عمك القادم من أمريكا حقيقة ؟
هززت رأسي مؤكداً ، ولم يمد عمي يده ليمس زجاجة المشروب البارد ، بدا متعالياًً ،ثم نظر في ساعة يده وهب علي الفور كمن لدغه عقرب :
ـ لقد تأخرنا ..
قال قدورة :
ـ بالفعل ..

* * * *
يقول أبي :
ـ كان الوطن يمر بمحنة قاسية ، حرب يونيه ، أخبر خطيبته ليلي بالسفر ، خيرها بينه وبين البقاء ، قالت :
ـ الوطن ..
تبرعت بدبلتها للمجهود الحربي ، وسافر هو إلي أمريكا بعد أن درس العلوم الطبيعية بجامعة القاهرة :
ـ ساعدته قدر المستطاع بحكم أني كبير العائلة ، راح ولم يعد ، الكل ظن أنه مات ، جدتك وهب كانت تؤكد أنه مازال حياً يرزق :
ـ قلبي دليلي ..
عدت لأسأل أبي :
ـ وماذا بعد ؟
قال والحزن يكتنفه :
ـ قبل فترة وصلتني رسالة منه يعتذر عن انقطاع أخباره وتأخر رسائله متعللاً بكثرة مشاغله ..
ضحك وهو يذكرني :
ـ هل تذكر يوم أن نشرت مجلة "الهلال " قصة لك ، بدا وكأنه حقق نصراً مؤزراً ووقف مفاخراً بين أعضاء الجالية المصرية :
ـ هذا الشبل من ذاك الأسد ..
وأشار في زهو :
ـ هذا ابن أخي الذي اكتشفت موهبته قبل سفري.
وكتب في ذيل رسالته :
ـ سوف أهديه حاسوباً عند حضوري ..
منح أبي رجل البريد الشاب ابتسامة ، فدعا له الشاب بأن يكون بين تلافيف الرسالة شيكاً بالعملة الصعبة :
ـ كم كان المبلغ ؟
قلت دون أن أشعر ، لحقت بي أمي مؤكدة :
ـ شئ يدعو للعجب ، تسابق أعمامك جميعاً كل منهم يسأل عن حصته في المبلغ المرسل ، أدلي كل منهم بخبرته في أسعار صرف الدولار، جددت عمتك رغبتها في استكمال حاجيات ابنتها التي لم تتزوج حتي الآن ، وحاجتها لدفع مصروفات الجامعة لإبنها ..
قدم أبي لهم الرسالة فجعلوا يركضون كالخيول الجامحة فوق سطورها حتي تقطعت أنفاسهم دون الوصول :
ـ يا للخسارة ، ماالعمل إذن ؟
رد أبي :
ـ لا شئ ، لا شئ ، لسنا في زمن المعجزات .
ـ هل تكتب له ؟
ـ أنا لا أكتب منذ زمن ..
ـ سنكتب نحن ..
ـ اكتبوا ، فما أسهل الكتابة ..
* * * *
قالت زوجته وهي تضع ساقاً فوق أخري بمواجهة أبي قبل أن تمنحها أمي منديلاً كبيراً تواري به ساقيها :
ـ لقد زادت بدانتك كثيراً يا أم جمال ، يبدو أنك طاهية ممتازة ..
شكرتها أمي بقدر ما بذلت من جهد في البحث عن كلمات بالإنجليزية مازالت تذكرها وسألتها عن ماجد وسميح :
ـ انهما في رحلة مدرسية إلي عاصمة النور وسيعودان بعد أيام ..
ـ نحن في شوق كبير لهما ..
ربتت زوجة عمي علي كتفي :
ـ متي تتزوج " مستر " جمال ؟
قلت :
ـ في القريب ..
كان عمي صامتاً طوال الجلسة يحملق في اهتمام بالغ في وجه الرئيس الأمريكي وهو يلقي خطاب الإتحاد عبر شاشة " الحرة " ، قال هو يودع أبي :
ـ هل ثمة مساعدة يمكنني تقديمها من أجل عيني الولد جمال ؟ هل ستزورنا في الفندق الذي نقطنه ، أظنك تعرفه جيداً ؟
ـ بالطبع ..
سحب أبي يده من وسط قطعة ثلج غلفت يد عمي ، رد :
ـ بالطبع ، سيذكرني جمال بالموعد ، وغمز لي بطرف عينه ..
لم أذكر أبي بالموعد ، ولا أبي تذكر ، أبي نسي وأنا نسيت ، و.......
* * * *

مصر
(144)    هل أعجبتك المقالة (141)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي