داخل زنزانة باردة معتمة تجمّد فيها الزمن عاش المعتقل "هاني الحمصي" -اسم مستعار- أربع سنوات ونصف في سجن حمص المركزي بعد أكثر من سنة ونصف أمضاها في سجن "صيدنايا" بسبب انشقاقه عن جيش النظام ذات يوم من عام 2011.
لم يكن الشاب الذي ينحدر من إحدى قرى ريف حمص الغربي يظن أن انشقاقه عن جيش النظام سيكلفه سنوات طويلة عاشها ولا يزال نسياً منسياً خارج دائرة الحياة، ففي الشهر الثامن من عام 2011 اقتحمت وحدات من جيش النظام قريته وتم اعتقاله واقتياده إلى فرع "أمن الدولة" في حمص وبقي 11 يوماً تعرض خلالها للتحقيق والتعذيب، ثم حُوّل إلى فرع الأمن العسكري ليرى هناك –كما يروي لـ"زمان الوصل"- كل ألوان التعذيب بما فيها "الشبح"، حيث كان الجلادون يبقونه معلقاً إلى حد الإغماء مع الضرب المؤلم بالسياط الغليظة والصعق الكهربائي ليعترف بما يريدون ولكنه كان متماسكاً ورفض الاعتراف كما قال.
بعد أكثر من أسبوعين تم تحويل الحمصي إلى الفرع (191) للأمن العسكري بدمشق وهناك -كما يقول- تعرض من جديد للصعق الكهربائي والكرسي الألماني وشتى أنواع التعذيب الذي كان يزداد عندما يعرف الجلادون أنه عسكري منشق.
بقي "هاني" في الفرع المذكور أربعة أيام ليتم تحويله بعدها إلى الفرع (148) للأمن العسكري الذي وصله مصابا برأس ينزف دماً إثر ضربه بأخمص البنادق داخل سيارة الفرع، وعند وصوله إلى الفرع اتهم الحمصي بانتسابه للواء الضباط الأحرار وتم تعريضه من جديد للتعذيب بالكرابيج وهو مقيّد اليدين إلى الخلف ثم رُمي في زنزانة ضيقة وسط بركة من الدماء التي كانت تنزف من كل أنحاء جسده، وكانت الزنزانة التي وُضع فيها الحمصي باردة معتمة نتنة من رائحة الدماء وعلى أحد جدرانها دوّن أحد المعتقلين عبارة "إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك" التي أثرت فيه كثيراً وكان يبكي كلما قرأها وينام ويستفيق على أصوات التعذيب في الزنزانات المجاورة "كان صوت التعذيب أصعب من التعذيب ذاته والعذاب النفسي أصعب من الجسدي بكثير".
بعد أربعة أيام تم نقل الحمصي إلى فرع الشرطة العسكرية في "القابون" ومن هناك حوّل إلى "صيدنايا" وكان برفقة 14 معتقلاً كلهم من "جسر الشغور" اعتقلوا في قضية مفرزة "جسر الشغور" منتصف 2011، حين فجّر الثوار الجسر ببرميل ديناميت وقتل في التفجير 83 عنصراً من المفرزة.
ويصف الحمصي فترة اعتقاله في "صيدنايا" بأسوأ أيام حياته وعند دخوله مع رفاقه إلى السجن سيئ الصيت، حيث ضُرب ورفاقه بالدولاب قبل أن تؤخذ بياناتهم الشخصية، أما هو فتم تركه للأخير لأنه عسكري وكان لابد من الاحتفاء به على طريقة "صيدنايا".
وروى الحمصي إن أحد الجلادين قال لزملائه "هادا من لواء الضباط الأحرار اتوصو بهالخاين"، وبالفعل تلقى أكبر قدر من التعذيب في المبنى الأبيض من السجن، وكان عناصر السجن يقيدون قدميه بحديدة بحيث لا يتمكن من الحركة ويضربونه بالدولاب فكان يشعر بألم جهنمي لا يحتمل أبداً، حسب وصفه.
بعد حفلة التعذيب الوحشي تم وضع الحمصي في منفردة عارياً إلا من لباسه الداخلي وتركوه دون غطاء وبعد ثلاثة نُقل إلى المبنى الأحمر ليتم استقباله بحفلة تعذيب جديدة ورميه ثانية بمنفردة مع بطانية واحدة وبدلة السجن الزرقاء.
أصيب الحمصي من كثرة تعرضه للتعذيب بخراج في قدمه اليسرى فطلب من السجان أن يعرضه على طبيب لأن الألم لم يكن يُطاق وخصوصاً أن قدمه ورمت من الركبة إلى الفخذ فما كان من السجان إلا إخراجه و"دولبته" مرة ثانية، وبقي بعدها أربعة أيام وهو يعصر الوهم والقيح حتى استراح قليلاً.
من خلال شق صغير من باب المنفردة استطاع المعتقل السابق في "صيدنايا" أن يتعرف إلى وجوه جلاديه ومنهم –كما يقول- مسؤول المنفردات "وائل كشتو"، وهو رقيب أول من مدينة "نوى" بدرعا وعرف أنه من نوى لأن العساكر كانوا يقولون له عندما يأتي معتقل جديد من بلدته "هذا من ضيعتك".
بعد 11 شهراً من اعتقاله في "صيدنايا" عُرض الحمصي على محكمة بدمشق وخلال محاكمته التي لم تستغرق أكثر من 3 دقائق كان مقيد اليدين وآثار التعذيب تغطي جسده، ووجهت له حينها تهمة الإرهاب، ليتم تحويله في الشهر السابع من عام 2012 إلى سجن حمص المركزي ووضع في الجناح الأمني مع الإسلاميين، وبعد أسبوعين شهد السجن أول استعصاء منذ بداية الثورة بسبب عبارات كفر أطلقها أحد الضباط أمام المساجين الذين كانوا يريدون أداء صلاة التراويح في ساحة السجن.
وشهد الحمصي بعد ذلك –كما يقول- 20 استعصاء داخل السجن لأسباب كثيرة كان أصعبها –كما يقول- استعصاء عام 2013 عندما هدّدت أمريكا بقصف النظام السوري بعد مجزرة الكيماوي وحاولت قوات النظام آنذاك اقتحام السجن وتم ضرب غازات سامة ورصاص حي على المعتقلين، وكان هذا الاستعصاء بمثابة رعب حقيقي للمعتقلين وذويهم.
ويضم سجن حمص المركزي– بحسب محدثنا– حوالي 600 معتقل من بينهم 16 محكوماً ميدانياً والباقي محكمة جنايات الإرهاب.
والسجن الآن شبه معزول عن إدارته ويخلو من عناصر للشرطة داخله، فكل عناصر السجن وضباطه موجودون في الإدارة فقط خلف أبواب مصفّحة خوفاً من المعتقلين، أما الوضع الإنساني فلا يختلف عن السجون المدنية الأخرى، فالكهرباء داخله دائمة الانقطاع والطعام والطبابة سيئان جداً وكذلك التدفئة في أيام الشتاء الباردة.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية