ليست مجرد ثرثرة من فراغ تلك التهديدات الكلامية المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله، إذ في الوقت الذي صرح فيه حسن نصر الله بأن حزبه سيستهدف المفاعل النووي "ديمونا"، كان هناك ردّ على الطرف الآخر بأن إسرائيل ستستهدف كلّ لبنان في حال استهداف المراكز السكانية أو البنى التحتية لديها.
حقيقة هذه الجلبة هي أن "حزب الله" تبلّغ – كما ذكرت عدة مصادر – رسالة مفادها بأنه سيكون هدفاً لضربة إسرائيلية قادمة، ولعل هذه التهديدات لها ظروفها الموضوعية بالنظر إلى مجمل ما يجري في المنطقة.
لقد مرّت ست سنوات على الحرب الدّائرة في سوريا، وانخرط "حزب الله" فيها بشكل كامل، وحقق مكاسب لمشغّله الإيراني، وهي مكاسب شكلا تصب في مصلحة النظام السوري، لكنها مضموناً ستشكل خطراً على دول المنطقة العربية وتزيد من حدّة الصراع وتقوّي نفوذ إيران، وشيئاً فشيئاً تغيّرت الظروف إلى ما يفترض أن يحصل، فدخول روسيا يضعف من نفوذ إيران، ويحقق نوعاً من التوازن للأسد الخائف من "اللّحاف" المستعار، وهي حالة طبيعية أن يسحب الحرس الثوري غطاءه عن الرجل عند اكتمال السيطرة.
يمكن فهم عمق الخوف من إيران، بملاحظة مستوى الترحيب بروسيا لدى حواضن النظام، وهذا يفسّر أيضاً أنّ التطورات ستذهب إلى صراع نفوذ وسيطرة، وقد حصل هذا في ريف حمص الغربي، وفي مناطق وادي بردى والزبداني، وحتى في حلب، وجرى التكتم عليه خشية زعزعة الثقة لدى الميليشيا، وبالتالي التأسيس لاصطدام أقوى يمكن أن تنفلت خلاله الأمور من "عقالها".
إذن وبعد رحيل أوباما ومجيء ترامب هناك فريق في البيت الأبيض يكنّ العداء لإيران بطبيعة الحال، وهو فريق من أصحاب التجارة والمصالح في مجالي النفط والبنوك، وفي دول الخليج بيت القصيد والمال، فقد طلب ترامب أن يكون الدفع فوق الطاولة، ووافق الحلفاء التقليديون، وقد كانوا يدفعون نفس الفاتورة تحت الطاولة، وعقد مُعلنٌ هذه المرة ربما يأتي بنتائج أفضل طالما أن الحساب "شندي بندي".
وصلت الرسالة إلى إيران، وبدأت خطة إعادة التموضع بزيارة روحاني إلى الكويت، ومحاولة تغيير الشراع مع ريح المرحلة، وتبلّغ الحليف نصر الله بالتطورات، لكنّه لا يستطيع الخروج من سوريا دون دفع ثمن.
الثمن الذي يفترض أن يدفعه "حزب الله" هو من شقين، الأول دوره في لبنان والوضع الجديد إذا عاد على خلفية هزيمة المشروع الإيراني في المنطقة، والثاني تبنيه منطق الندّ مع إسرائيل، وهي التي رأت في وجوده على المساحة السوريّة مكسباً لها.
في الشق الأول سيحاول الحزب فرض تغيير في الترميز التقليدي والعمل على معادلة "المثالثة" لا المناصفة، أي أنه يريد أن يقول إن لبنان لم يعد صالحاً لنموذج دولة مسيحية، فالمسيحيون يستحوذون (تقليدياً) على النصف سياسياً حسب "اتفاق الطائف"، وهو ما لم يعد ممكناً مع فائض القوة التي يشعر بها الحزب عسكرياً وسياسياً، وهذا يعني خلخلة الوضع اللبناني.
في الشق الثاني، ستكون إسرائيل مضطرة "لقص العشب"، ولن يكون ممكناً تقبلها لخصم يشعر بفائض قوّة، ويمثل مصالح إيران على حدودها، إذ إن الضغط لإعادة إيران لحجمها الطبيعي كما يقول الرئيس الأميركي ربما يقابلها استخدام "حزب الله" كتهديد مزمن وورقة في الصراع الإقليمي، لذلك فإن إسرائيل ستحرص على التمهيد لصدام أعنف في الداخل السوري في ربع الساعة الأخيرة، على أن يكون حزب الله أحد طرفي هذا الصدام، لكي يعود محمولاً على "النقّالة"، وإن لم يحصل فإن إسرائيل هي من سيقوم بهذا الدور.
بالعودة إلى الوضع في سوريا والعراق، ولفهم الخطوة التالية، فإن المعركة في الموصل والرقة تبدو في جزئها الأسخن، وينتظر أن يطلع الرئيس الأميركي على الخطة الجديدة لمستشاريه العسكريين، انتقالا إلى تسريع تطبيقها، وهذا يعني مع ملاحظة التحرك التركي شمالاً أننا في الثلث الأخير من المعركة، وبطبيعة الحال فإن الخطوة التالية بعد تنظيم الدولة هي "حزب الله"، وهو المسار الطبيعي للأحداث إذا فهمنا أنّ إسرائيل تتحكم بجزء كبير مما يجري في سوريا، وهي تصرّح بذلك علناً.
نذر المعركة تلوح في الأفق، ومنها الردّ على تصريحات الرئيس اللبناني ميشيل عون حول ضرورة بقاء حزب الله كقوة عسكرية مع ضعف الجيش اللبناني، إذ جاء في بيان للأمم المتحدة بأن القرار 1701 الذي اتخذ عام 2006 يمنع أن تكون الدولة راعية لميليشيا خاصة بها.
هناك من يحرك الأحجار بمهارة، لكن الرقعة ملتهبة، واللاعبون الكبار عادة ما يستمرون إلى النهائي، سيدخل الأميركيون التصفيات بشكل فعلي قريباً، والروسي موجود، وإذا كان لا بدّ من تقديم خسائر بين الطرفين فلتكن من العناصر الأضعف، ثم العناصر الأكثر قوّة، وتصنيف اللعبة هي "البيادق" وتمثل جميع الميليشيات الأجنبية والمحلية، تليها القوى الإقليمية المحركة لتلك "البيادق"، ربما يرغب الإسرائيلي في النهاية بأن تنتهي اللعبة بالتعادل بين الرأسين الأميركي والروسي، ويمكن ضمان التعادل على قاعدة تقاسم المصالح.
* من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية