بدأت الفرقة الموسيقية تعزف بعض المقطوعات الغربية ، لكن أحدا لم يعرف ماذا يجري ،الكل ترقب ما ستفرج عنه تلك الخشبة المسرحية الضخمة وسط ساحة عرنوس بدمشق ، ثم مالبث أن دخل عدة أشخاص حاملين معهم دمية كبيرة على شكل كتل حلزونية . إنها دودة القز راحت تسلسل رويدا رويدا إلى أن استقرت قرب خشبة المسرح الذي صمم على شكل صندوق خشبي ضخم .
أحاط المواطنون بأسوار الحديقة ، وأعينهم تسترق النظر إلى الداخل ، لكن سرعان ماسمح لهم بالدخول بعد أن سال لعابهم ونفذ صبرهم ، فافترشوا الأرض ، في حين فضل بعضهم أن يضل واقفا .
خرج حارس الصندوق مثل دوره كفاح الخوص من داخل الصندوق الخشبي ، ووقف على ظهره ، ثم راح يسرد حكاية مهنة الحرير الدمشقي الطبيعي التي عرفها الشوام منذ مئات السنيين ،عبر أسئلة ساذجة وجهت إليه من صحفي وصحفية شاركاه العرض ،وتعمدا طرح بعض الأسئلة الساذجة ، في محاولة لتبسيط القصة لجمهور أغلبه من العامة .
روى حارس الصندوق أن البر وكار الشامي كان يصنع يدويا من خلال النول، قائلا : كان الحرير الشامي يضاهي الحرير الصيني، وأن تجار الشام فتحوا أول معمل لصناعة البر وكار في باب شرقي ،على يد ‘' انطون مزنر''.
ثم مرت الأيام إلى أن تطورت صناعة البر وكار و جلبت الذهب لدمشق، حتى طمع الآخرون بها ، بدءا من السلطان سليم الأول الذي أخذ معه ‘'شيوخ الكار''، إلى ‘'تيمور لينك ، ثم تحدث عن الحرب الأهلية التي اندلعت في دمشق عام 1960 ،و التي كادت أن تحرق الأخضر واليابس لولا حنكة الأمير عبد القادر الجزائري ، فكان من نتائج هذه الحرب أن انخفض عدد شيوخ الكار من 30 ألف إلى 8 آلاف فقط . أما الفرنسيون كما يقول حارس الصندوق فلهم حكاية أخرى بدأت مع الجنرال غورر أيام الاحتلال الفرنسي ، حيث اتبع الفرنسيون سياسة خطيرة ، من خلال إضعاف صناعة الحرير في دمشق ، وجعلها تقتصر على الحرير الخام و تصديره إلى مصانع فرنسا ، مضيفا: لم يبق الآن سوى نولين يدويين ينتجان البر وكار الطبيعي في دمشق.
متابعة ودهشة
تابع الجمهور حكايات حارس الصندوق بكثير من الدهشة ، فأغلبهم لا يعرف شيئا عن هذه القصص ، خاصة عندما قال الحارس : عندما أرادت ملكة بريطانيا العظمى ‘'إليزابيث'' أن تتزوج منذ حوالي ستين عاما ،لم يعجبها أي فستان زفاف، رغم كثرة الهدايا التي أتتها من كافة بلاد العالم ، لكن لم يعجبها سوى هدية دمشقية ،هي عبارة عن ثوب زفاف من حرير البر وكار الشامي ،أرضيته بيضاء كالثلج ، رسم عليه عصفورين يقبلان بعضهما البعض ،يطلق عليهما اسم ‘' العاشق والمعشوق'' ، وعلى جناحي العصفورين خيوط من الفضة والذهب عيار 12 .
و فيما بعد تحول اسم نقشة العاشق والمعشوق إلى نقشة ‘' الملكة إليزابيث'' ، حتى الاسم تغير قال حارس الصندوق بحسرة وألم .
قصة الشام
حول هذا العرض قال كفاح الخوص في حديثه لـاللواء : العرض يحكي عن صندوق الكار، وهو كار الحرير الشامي، ومن خلال قصة الكار، حكينا قصة الشام تلك المدينة الكبيرة ، والانتقال من الخاص إلى العام في صناعة حرير البروكار، وهو الوحيد الذي كان يصنع في دمشق فقط ، حيث كانت الشام تعتمد في اقتصادها على الحرير ، وقد حاول البعض أن يسرق هذا الاسم في ايطاليا ويقول أنه إيطالي ، كما تحدثنا عن صعوبات المدينة في ذلك الوقت ، في محاولة لحض الناس للرجوع إلى هذه المهنة التي كنا نفتخر بها .
وعن الدمى المستخدمة أضاف الخوص : حاولنا أن نشرح من خلال هذه الدمى كيفية صناعة الحرير ، من خلال الفراشة التي تبشر بحياة جديدة لدودة القز ، وفي النهاية نريد أن نذكر جمهور الشام بمهنة حرير البروكار عساه يعود إليها ، وربما لمست هذا الشيء من خلال تفاعل الجمهور معنا.
لأول مرة
حنان قصاب حسن الأمينة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة جلست بين الجمهور لمتابعة العرض ،وقد علقت بالقول: ‘'ماحدا بقول عن زيتو عكر ‘' ، إلا أنه مسرح شارع جميل والفكرة كذلك ، لأول مرة نرى هكذا عرض ،إنه مسرح حقيقي، خاصة مع هذا العمل التقني المعقد.
موسيقى
ترافق عرض الشارع مع موسيقى غربية قدمتها فرقة من العازفين، جلسوا داخل فتحة في الصندوق الخشبي، ماأضفى الحيوية على حركة الممثل والدمى المستخدمة في العرض ، خاصة آخر مشهد ، وهو لفراشة معدنية عملاقة حلقت في سماء الحديقة ، مبشرة بحياة جديدة لدودة القز ، والحارس يقول لها طلعي طلعي لا تستحي ‘'.
حول استخدام موسيقى غربية لمرافقة هذا العرض قال المشرف على الفرقة الموسيقية نزار البلال : ما دفعنا إلى استخدام الموسيقى الغربية عدة نقاط ، فالمتعارف عليه أنه يجب وضع موسيقى تتناسب مع الدمى المستخدمة أولا ، لكن الدمى والآليات الموجودة في العرض مثل الفراشة والدودة والصندوق ، كلها معدنية وضخمة ، فكان لابد من أن نجد صوتا يشبه إلى حد ما هذه ‘'المكنات''، ولم استطع أن أضع العود مثلا بمرافقة صندوق وزنه 4 طن !!.
فكانت الفكرة الأنسب هي الخماسي النحاس بصوته الضخم ، وأكثر من ذلك أن الموسيقى الشرقية تعطي شعور بالحزن غالبا ، في حين تضفي هذه الآلات الحيوية، رغم صعوبة وجود مقطوعات لنختار منها ، ولدينا هنا في الشام عدد محدود من القطع الموسيقية، فاخترنا قطع متنوعة ، حيث رافق الافتتاح والخاتمة موسيقى إلى حد ما هي موسيقى ‘'غجر''، و أقرب إلى أن تكون رقصات حتى نتمكن من جذب الجمهور إلى الصوت، باقي ما تبقى، كانت مقطوعات عالمية. وبالفعل تقبل الناس هذه المقطوعات وأحبوها كثيرا.
يشار أن العرض من إخراج بيسان الشريف ، وفكرة محمد العطار الحسيني و بيسان الشريف، وسيناريو محمد العطار الحسيني، أما التصميم والسينوغراف فهو ل: زكريا الطيان ونزار البلال
صندوق الكار ' مسرح شارع يجذب أهالي دمشق ودمى عملاقة تحكي قصة 'البروكار'
دمشق - اللواء - عمر عبد اللطيف
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية