رغم أن تجربة اعتقالها لم تتجاوز 7 أشهر، إلا أنها كانت تجربة قاسية بكل المعايير بالنسبة للناشطة "هنادة فيصل الرفاعي" لأنها كانت أم وجدّة ومعلمة أجيال ولم تتوقع أن يتم تعذيبها في فرع "حرستا" للمخابرات الجوية وضربها لساعات طويلة في الفرع سيئ الصيت وبأمر من مدير الفرع آنذاك العميد "محمد رحمون" انتقاماُ لنشاطها الإغاثي ومساعدتها في تهريب ضباط منشقين.
ولدت هنادة في مدينة درعا مهد الثورة السورية ودرست الشهادة الثانوية فيها قبل أن تنتقل إلى دمشق لتدرس الأدب الإنكليزي في جامعتها، وتزوجت من ابن عمها وهي لا تزال طالبة جامعية ثم سافرت معه إلى الباكستان لتعيش هناك خمس سنوات وتكمل دراستها في جامعة كراتشي، وبعد عودتها إلى دمشق التحقت بالتدريس في المدرسة الباكستانية بدمشق ولم يكن لديها أدنى اهتمام بالسياسة، إذ كان جلّ اهتمامها منصباً في تربية أبنائها الأربعة وعملها وبيتها -كما تروي لـ"زمان الوصل"- مضيفة أنها كانت تتابع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وتتساءل بينها وبين نفسها إن كان السوريون سيجرؤون على القيام بثورة مثيلة، وآنذاك حصل حصار درعا وكان والدها -كما تقول- يعيش وحيداً هناك، وصارت تسمع بمنع التجول ولم تكن تخشى على والدها من الجوع ولكن كانت تخشى من فقدانه للدواء، فهو مريض في القلب.
وتضيف محدثتنا أن شقيقها الشهيد "نايف الرفاعي" رغم أنه كان قاضياً عسكرياً ومع ذلك لم يستطع الوصول إلى أي خبر عن والده لأن كافة الاتصالات والكهرباء والماء كانت مقطوعة عن المدينة، وكانت -كما تقول- تبحث على الإنترنت عن أي وسيلة للوصول إليه، وحينها وجدت مجموعة شبان من طلاب جامعة دمشق كانوا يذهبون في الليل إلى درعا لتوزيع الخبز والحليب على الأهالي".

وتتابع محدثتنا: "يومها رجوتهم للاطمئنان على والدي وسألوني عن العنوان ثم عن رقم موبايلي وكان كل الحديث بلغة الرموز، أي ماهو قياس الحذاء والعمر وهكذا حتى اكتمل رقم موبايلي" وحين سألها الناشطون الذين أبدوا استعدادهم لمساعدتها عما يأخذون له طلبت منهم أن يسألوه عن أنف ابنته الكبرى، وكانت مفاجأة بالنسبة لهم، أما بالنسبة لها –كما تقول- فكانت تتوقع أن يجدوه مقتولاً في بيته ولكن سيكذبون ويقولون إنه بخير، وتردف هنادة: "في اليوم الثاني كنت أقود سيارتي عائدة من المدرسة في يعفور إلى بيتي في صحنايا وعند مخابز شمسين بالضبط رن موبايلي وإذ برجل يقول لي: "والدك يرسل سلامه إلى الأنف الإغريقي"، وآنذاك -كما تقول- كادت تطير فرحاً واتصلت بكل إخوتها لتطمئنهم أن والدهم حي فقد كانت هذه جملته دائما لها حتى وهو على فراش الموت بذبحة صدريه في نهاية 2011، وكان يقول -كما تروي:"أحب الأنف الإغريقي كالسهم الموجه إلى قلب العدو والجبين المشرق كيوم النصر".
يومها شعرت السيدة الحورانية أن زمن البطولات بدأ يُصاغ الآن وأن ما يحصل أهم من قصص البطولات التي تُروى في كتب التاريخ، ومن يومها بدأت النشاط الإغاثي وحملت روحها على كفها لتحقيق العدل والمشاركة في ثورة الحرية والكرامة.
"
بدأت هنادة آنذاك ضمن مجموعة سرية إعلامية كانت تجمع كل صور وفيديوهات الاعتقال والمظاهرات والشهداء لترسلها إلى العالم وإلى كل القنوات العربية والعالمية ومنظمات حقوق الإنسان، وكانت -كما تقول- تكتب وتشارك باسم "الحورانية" وهو الاسم الذي اشتُهرت به على "سكايب" وفي غرف الناشطين والجيش الحر.
بعد ذلك تعرفت الحورانية الحرة على من يساعد في المشافي الميدانية وكانت تقدم من راتبها ما تستطيع المساعدة به لنقل الدواء إلى داريا، وعلمت آنذاك عن ضابط بالكسوة يمنع عناصره من إطلاق النار على المتظاهرين وكان ضد ما يمارسه النظام من قمع فشجعته على الانشقاق وكانت تتواصل مع مجموعة كانت تعمل مع المقدم "حسين هرموش" وبالفعل انشق (ضابط الكسوة) وهرب وكانت –كما تقول- تتواصل معه إن كان بحاجة للمال لأنه كان بعيداً عن أهله في حمص، وبعد انشقاقه تم إرساله إلى لبنان واستقر في "وادي خالد" ومن هناك قدم لي المساعدة ولم ينسَ اهتمامي به عند هروبه وساعد الضابط المنشق على نقل ضابط آخر من مصر إلى بابا عمرو ضمن كتائب "الفاروق".
بتاريخ 15 آذار/مارس/2012 وأثناء محاولة هنادة تأمين أحد الضباط المنشقين في منطقة النبك ظهر لها وللأشخاص الذين كانوا برفقتها حاجز طيار للنظام استوقفهم وعرف عناصر الحاجز الضابط المنشق فأنزلوه مع الآخرين وبدؤوا بضربهم، وتركوها في السيارة بعد أن أخذوا المفتاح ولكنها كانت تحتفظ بنسخة في حقيبتها وكان المكان خالياً من الأبنية والناس، وحينها –كما تروي- سارعت لتشغيل السيارة وهربت فلحقوا بها في سيارة أخرى مع اطلاق نار لمسافة 15 كلم تقريبا حتى فقدت السيطرة ووقفت فأمسكوا بها وتم تحويلها ومن معها إلى فرع المخابرات الجوية في حرستا، وهناك أدخلوا إلى مكتب العميد "محمد رحمون" في الطابق الثالث من المبنى وتم ضربهم على الدولاب في مكتبه، حيث كانت أيديهم مقيّدة إلى الخلف وعيونهم مغمضة.
أمضت المعتقلة السابقة 7 أشهر في نفس ذات الزنزانة بقبو فرع المخابرات الجوية في حرستا، والمفارقة -كما تقول- أنها اتُهمت بتهم بعيدة عن عملها الإغاثي أو دورها في الثورة ومنها التعامل مع الموساد ووجود "بودرة بيضاء" -مخدرات -حسب زعمهم- في سيارتها، وبتهمة اللقاء سراً بأعضاء في السفارة الأمريكية بدمشق وكتابة مقالات تحريضية على إسقاط النظام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتم تحويلها إلى المحكمة العسكرية التي كان شقيقها قاضياً فيها، ولكنه كان قد اعتقل حينها بعد أن أصبح مراقبا بسبب مساعدته للمعتقلين وتم رفع الحصانة عنه قبل اعتقاله بثلاث شهور ولم يكن أحد يعلم بذلك وكان مغضوباً عليه ايضا بسبب حادثة سابقة قبل الثورة حين أراد العدل لرجل مسن تجاوز سيارة في منطقة المزة لعناصر من القصر الجمهوري وهو أصر على التحقيق معهم وهذا أدى إلى توقيف ترفيعه كضابط مرتين.
بعد عرضها على المحكمة العسكرية تم تحويل هنادة لمدة يومين إلى مخفر برزة بسبب العطلة الأسبوعية ثم إلى المحكمة المدنية بالزبلطاني ومن هناك تم الإفراج عنها، وتعلّق محدثتنا أن موظفي المحكمة ختموا يدها بختم أزرق ليخرجها حارس البوابة إلى الشارع مضيفة أنهم "لم يجدوا من كل ملف اعتقالها والأوراق والصور سوى ختم على كف يدها".
وإذا كان ختم يدها قد محى وزال أثره إلا أن لحظات الاعتقال المريرة ومشاهد التعذيب والإذلال خلال فترة اعتقالها القصيرة نسبياً لازالت كوشم في ذاكرة "هنادة الرفاعي" رغم مرور سنوات على الإفراج عنها، وكانت هذه الفترة –كما تقول- أطول من عمرها كله الذي تجاوز النصف قرن، فهي لا تستطيع أن تنسى مشاهد الأطفال المعتقلين ولا الشبان ولا النساء في الفرع الجهنمي، ولا من فقدوا عقولهم داخله ولا أولئك الذين أُغمي عليهم وهم ينزفون أثناء تعليقهم و"شبحهم" في سقوف الحمامات ولا أولئك الذين كانوا يموتون ويتم رميهم خارج الزنزانات، كما لا تستطيع للحظة أن تنسى شقيقها القاضي الحر "نايف الرفاعي" الذي عانى الكثير في سجنه وتم قتله بعد أن ضربوه بقطعة معدنية ثقيلة على معدته وعلى كافة جسده وذلك بعد سنتين وشهرين من اعتقاله، فلا يوجد شيء في الكون مؤلم مثل شهيد تحت التعذيب.
وتضيف محدثتنا بنبرة حزينة: "لن أنسى الوجوه ولا الصراخ، ولا كيف وضعوني بالدولاب مقيّدة مطمشة وتم ضربي بكل وحشية وأنا معلّمة مدرسة وبهذا العمر وعندي أحفاد".
إثر خروجها من المعتقل عاودت "هنادة الرفاعي" عملها الإغاثي مع مجموعة ناشطين في صحنايا بريف دمشق ومنهم "مروان حاصباني" الذي تم اعتقاله واستشهد تحت التعذيب، وتمكنت المعتقلة السابقة من الهروب إلى تركيا ثم إلى النمسا، حيث دأبت على المشاركة في المظاهرات السلمية التي تطالب بإسقاط نظام الأسد واعتادت -كما تقول– على الذهاب إلى حدود هنغاريا لمساعدة اللاجئين في خيمة الصليب الأحمر والعمل مع منظمة إغاثية لمساعدة الشبان اللاجئين في مجال التعليم، وتقوم حالياً بالعمل التطوعي معهم لتدريس مادة اللغة الانكليزية والرياضيات علّها تستطيع تناسي فترة مؤلمة وعصية على النسيان من حياتها.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية