لو ادعى النظام بأن تنظيم الدولة هو من فجر في جبلة قبل أيام، وهو من استهدف المدينة ذاتها مع طرطوس العام الماضي بتفجيرات أودت بحياة المئات، لما صدقه أحد حتى في حاضنته الشعبية، نظرا للمسافة البعيدة التي تفصل التنظيم عن مدن الساحل وعدم رغبته أساسا باستهداف مناطق النظام وهو الذي اختار الرقة ودير الزور وتدمر مسرحا لتوسعه ومناطق لانتشاره.
ولم يجد النظام طريقة مناسبة لإخراج مشهد مقنع لمرتكب هذه التفجيرات يلقّم بها أنصاره ويسكت غضبا محتملا لهم سوى اتهام "الإرهابيين"، أو لعله لم يبحث عنها غير آبه بردود أفعالهم، وقد حفظها مستكينة راضية تقبل بما يرمى لها، فهم على الرغم من مرور شهور على التفجيرات السابقة لم يطالبوا بالكشف عن الفاعل، وربما نسوا تلك الحادثة والتفتوا إلى لملمة أشلاء أجسادهم في التفجير الأخير.
لم يبادر تنظيم الدولة كعادته إلى تبني هذه التفجيرات ولم تدعِّ أي جهة معارضة أنها تقف خلفها، ولم يقدم النظام فاعلا ولو عبر تمثيلية تنتهي مفاعيلها بعد عرضها، إذا من الفاعل، لماذا لم يعلن عن نفسه وقد شهدنا في حوادث مغايرة تبني أكثر من جهة المسؤولية بوقت واحد؟
همسٌ بين أنصار النظام في حاضنته الساحلية يحمل النظام مسؤولية التفجيرات أقلها فساد مؤسساته الأمنية وتقصيرها في مراقبة وتفتيش السيارات التي تعبر حواجزها، أو عدم التدقيق في سلوكيات ونشاطات النازحين في الساحل السوري الذين حملتهم حاضنة النظام سرا وعلانية مسؤولية التفجيرات، ويتجاوز الحديث الهمس لدى بعضهم فيتهم بحديث مع المقربين لديه النظام بأنه من خطط ونفذ وقتل.
في كل مرة تفتر فيها همة أنصار الأسد في تقديم الولاء والأرواح فداء له، يعمد لافتعال تفجيرات أو ضجيج إعلامي عن اقتراب "المسلحين" من معاقلهم أو تخطيطهم لاستهدافهم بأمنهم عبر التفجير أو القصف، ويحفظ السوريون كيف استنفر النظام شريحة غير قليلة من السوريين عبر تنفيذه تفجيرات في حي الميدان الدمشقي وإدارة الأمن الجنائي وتصويره ضعيف الإخراج لمسلحين أعدهم لاستهداف المظاهرات في درعا مع بداية الثورة، ونسبها مع غيرها الكثير للإرهابيين، واستطاع بماكينته الإعلامية المتفوقة على ما يملكه المعارضون إقناع أنصاره والرماديين بالوقوف إلى جانبه.
مصدر في قيادة شرطة اللاذقية قال لنا حرفيا "العصفور لا يستطيع الوصول إلى مناطق الساحل إلا بإرادة النظام وحواجزه، إن كل التفجيرات التي ضربت الساحل خلال الأعوام الماضية كانت بأمر وإعداد من النظام، أو بتسهيل منه بالحد الأدنى، لا تصدقوا ما يشاع عن إمكانية اختراقه هنا، لقد وظّف خبرته وخبرة الإيرانيين والروس في مراقبة كل ما يجري في مدن الساحل".
المصدر تحدث عن دليل على اتهامه للنظام فأشار إلى أن السيارة المفخخة التي تم تفجيرها في مدخل كراجات مدينة طرطوس العام الماضي وأودت بحياة العشرات ركنها في المكان سائق أحد ضباط الأمن العسكري في المدينة، وهذا ما توصلت إليه التحقيقات الخاصة التي أجرتها شرطة المدينة، ولم تتجرأ على نشر نتائجها.
معلومات مصدرنا تؤكد أن التفجير الذي ضرب وسط مدينة جبلة قبل أيام وقضى فيه 27 شخصا تم بسيارة مفخخة ادعى مالكها وهو من حي دمسرخو الموالي في اللاذقية أنها سرقت منه، رغم أنه لم يبلغ الشرطة بذلك.
يبدو من الخروقات المتواصلة من قبل النظام للهدنة التي رعاها الروس والأتراك وتم إعلانها من أنقرة بأنه غير راغب فيها، وهو بحاجة لاستعادة همم أنصاره القتالية بعدما تفاعل كثير منهم معها، ووجدوا فيها فرصة لالتقاط الأنفاس ووقف الموت في صفوفهم، وهذا ما دفعه لتفجير سيارة جبلة والتركيز إعلاميا عليه بأنه من فعل وتنفيذ المسلحين الذين تجب محاربتهم وليس مهادنتهم.
ردود أفعال موالين للأسد على تفجير جبلة توضّح أن الأصوات التي طالبت بالالتزام بالهدنة خفتت، وارتفع بالمقابل صراخ المطالبين بالاستمرار بقتال "الإرهابيين" حتى القضاء عليهم والحد من قدرتهم على تنفيذ تفجيرات في الوسط الموالي، معززين طلبهم بقدرة الجيش على تحقيق ذلك بعد الانتصار الذي وصفوه بالكبير في حلب.
هكذا يكون نظام الأسد قد حقق ما سعى إليه وأوجد مبررا لنفسه أمام حلفائه الروس بخرق الهدنة، ويبدو أن الروس صدقوا ادعاء الأسد أو ادعوا التصديق وغضّوا الطرف عن خروقاته المستمرة للهدنة في أرياف حماة وحمص وحلب واللاذقية، والخرق الفاضح والأكثر عنفا في وادي بردى بريف دمشق.
ويعوّل نظام الأسد باستنفاره الجديد لحاضنته الشعبية على إقدام ما تبقى فيها من شباب ورجال للانضمام إلى الفيلق الخامس الذي يعمل على تشكيله منذ شهرين دون تحقيق نجاح يذكر حتى أيام قليلة ماضية، لكن مصادرنا تشير إلى تطوع بضع عشرات منهم عقب التفجير مدفوعين بالدعوة المتكررة للانتساب إليه ينشدون الميزات المادية فيه ويطمحون -ربما-لحماية أماكن تواجدهم من "العصابات الإرهابية".
وكان من نتائج التفجيرات المتوالية تصاعد الدعوات المطالبة بترحيل النازحين من الساحل السوري وإعادتهم "من حيث أتوا" حيث حمّلتهم حاضنة النظام مسؤولية التفجيرات، وادعت شبكات إعلام موالية أن السيارة التي استهدفت جبلة مؤخرا جرى تفخيخها في أحد أحياء المدينة التي تسكنها غالبية من هؤلاء النازحين الفارين أصلا من قصف النظام لمناطقهم في الداخل السوري.
من غير المتوقع أن يكون تفجير جبلة مؤخرا هو الأخير من نوعه، فالنظام لن يتوانى عن افتعال تفجيرات أخرى كلما احتاج إلى ذلك، فهو لا يقيم وزنا لأرواح أنصاره إذا ما قورنت بأهمية عمل يعزّز حكمه في دمشق، والشواهد كثيرة لا يتسع الحيّز المتاح لذكرها.
* من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية