يشغلني كثيراً سؤال: هل ماتت الثورة؟، وأعرف أن معظم السوريين باتوا يطرحون فيما بينهم ذات السؤال، وكثيرون يجيبون بأن الثورة ماتت، وفي ذات الوقت هم يقبضون في دواخلهم على فكرة الثورة، كما يقبض فقير على رغيف خبز.
أقرأ أحيانا جدلاً واضحاً في نعي الثورة، ملتبساً في إقرار المتجادلين أنهم هم الذين ماتت روح الثورة فيهم، وآخر ما قرأت ربما كان ردّ الفنان اليساري يوسف عبدلكي على منتقدي معرضه في دمشق، وليس القصد إثارة نقاش جديد في الموضوع، فرده الأخير فيه من الحصافة الكثير، لكن فيه إقرار بالهزيمة، وإلا فما معنى أن نعلن جميعاً أن طليعة الثوار السوريين جرى قتلهم أو اعتقالهم أو تهجيرهم.
بناء على الفكرة الأخيرة، من نكون نحن الذين نناقش في موت الثورة، ولا نستحي أن نجد مبررا في معظم الأحيان للقول إن الإسلاميين المتطرفين والنظام معاً قضوا على الثورة، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي مهمة الثورة، هل مهمتها أن تهزم أمام أعدائها.
ربما لا نؤاخذ في ضعفنا وتعبنا بعد سنوات ست من الموت والتشرد، لكننا نؤاخذ في أننا نشبه كلّ المتحولين، وأننا تعاملنا مع الثورة على أن واجبنا فقط إعلان ثوريتنا ثم الجلوس على "الكنبة"، ومتابعة الشاشات، وإحصاء عدد الشهداء، وتقديم المداخلات حول حقوق الشعب، وظلم الحاكم وجبروته، ثم من قال إن الشعب السوري قام على نظام حكم متردد في إعلانه الحرب على من يحاول انتزاع السلطة والمكاسب من بين يديه، فالثائر عندما يسعى لحريته يمارس عملية انتزاع وهيمنة، وهو ما يقول به الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي.
إن نظرية رشق الدبابة بالزهور ما كانت لتنجح، بل ولم تنجح في التجربة السورية، لعدة أسباب، أولها أن سوريا لم تعبر في مرحلة ما بعد الاستقلال عبر تجربة حكم ليبرالي، وما حصل حتى عام 1958، لم يكن سوى تجربة غير مكتملة لنظام حكم سيطرت عليه الانقلابات لحين إعلان الوحدة مع مصر، كمدخل لنشوء دولة المخابرات، فالحالة السورية تشبه كثيرا حال المجتمعات القروسطية في أوروبا، مع اختلاف الظرف السياسي التاريخي، وصفة الطرف المهيمن على حياة الناس، وهذا يعني أن الثورات تحتاج لمسار طويل، فعلامات التحوّل من مجتمعات مقموعة بسلطة فوق إلهية (أي أنها تحكم باسم العلمانية والدين معاً)، تحتاج لجهد سياسي وكفاح مدني وثقافي وحتى مسلح لتفكيك هذه السلطة.
يبدو أن كثيرا من المحللين أو المفكرين لم ينتبهوا إلى أن المنظومة الدولية، والقوى التقليدية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى وترسخت بعد الثانية، وضعت قوانين وقواعد لا تتكيف مع حريات الشعوب، والدلالة عدد "الفيتويات" التي استخدمها الروس ضد قرارات لوقف الحرب في سوريا، وقبلها "الفيتويات" الأميركية لصالح إسرائيل، وفشل أي تحركات شعبية غير متصلة بقوى خارجية في تحقيق استقلال دولة ما، وهذا ما حصل في سوريا واليمن ومصر وليبيا وحتى تونس.
كثيرون ربما لا يقرؤون في العمق، ولا يلاحظون أن إفشال قيام أنظمة حكم ديمقراطي كان يستلزم التركيز على خطر مواز، وهو التشدد الإسلامي، إذن، كيف يمكن أن ترمي حراك الشارع الثوري بصفة الإرهاب والتشدد، وأنت تلاحظ أن شعوب هذه الدول هي الضحية الأولى لهذا الإرهاب، كما هي الضحية الأولى للأنظمة الديكتاتورية الشمولية.
بالعودة إلى السؤال الأول، إن كانت الثورة تموت، فإن كل الدلالات التاريخية تقول إن ثورة ما لم تمت عبر التاريخ، ربما تم قمعها بالحديد والنار، كما حصل في إيران عام 2009، إلا أن الحالة لم تتغير، فصمت الشعوب لا يعني أنها نسيت، بل هي حالة كمون، ولولا هذه الحقيقة لما تحرك الشعب السوري بعد أن رأى أهوال النظام بمدينة حماة وبعض المناطق في الثمانينيات، وبصرف النظر عن حجة ما حصل، فهو بالنتيجة يعطي فكرة عن هذا النموذج من الأنظمة، وعدم قدرتها على التعامل بمرونة، لأنها مفصلة من قطعة صلبة واحدة على مستوى الحياة السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية الاقتصادية، فكل هذه الدوائر ممسوكة ومثبتة على لوح أمني مخابراتي، وأي محاولة لإبداء المرونة ستنتهي بفالق كبير عرضي شاقولي، يقسم المجتمع ومؤسسات الدولة الوهمية.
إن خروج السوريين المحاصرين في عشرات المناطق بمظاهرات عند أقرب فرصة سانحة، كما يحصل اليوم، هي دلالة على أن هناك قدرة على استعادة المبادرة، كما أن هذا يعطي مؤشراً على أن الشعوب تتحرك في ساحة أوسع من الساحة التي تتحرك فيها أنظمة الحكم، ففي حين تنتقل مجموعات أو أفراد إلى تيارات إسلامية سواء بفعل اليأس أو عدم الثقة من رد الفعل العالمي، فإن هذه المجموعات قادرة على العودة من جديد إلى المسار المفترض الذي ترغب هي أساساً أن تكون فيه، فالسوري اليوم لا يأسف على سنوات ما قبل الثورة لجهة الإدارة والحكم، بل لجهة صيغة العلاقات الاجتماعية الأسرية، والبناء الاقتصادي الفردي، وهي حالة لا دخل للنظام فيها، بل حاول تشويهها، وسطا على تفاصيلها بموظفي أجهزته الأمنية في عملية سرقة موصوفة.
في جميع الحالات يصحّ القول إن الثورة تتسخ فعلاً، لكنها أساساً لم تدّعِ الطهرانية، وهي عرضة لأن تكون مطية الأوغاد، والسارقين وأصحاب المشاريع الضيقة، إلا أن أكثر ما يبعث على إضعاف وإيهان نسغ الثورة، هي تلك الأصوات التي تذهب إلى أبعد مما يفترض، بأن تكتب بيان نعي الثورة، وترسم جثتها، وتسلّم بندقيتها إما لمحتلّ خارجي، أو ميلشيوي إقليمي.
يا سادة .. الثورة لا تموت .. الثورة تتسخ .. لكنها لا تموت.
* من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية