أصحابي "عُشّاقُ الحريّة"..
ما أطيبَ مذاقَ "الحريّة" حين يصيرُ لحمُها ولحمُ ضحاياها.. في أَطباقِهم.
أنتم الذين تَدّعون أنكم لم تفهموا ما أعني:
لا شكّ أنكم الآن تُشاركونهم الأَطباقَ نفسها، على المائدةِ نفسِها، في وليمةِ الموتِ نفسِها.
لكم ولهم: سُمّاً هنيئاً!
هكذا يرى الشاعر السوري نزيه أبو عفش مذاق الحرية التي صارت تهمة للسوريين بدلاً من أن تصير أنشودة على لسان شعرائها، وهو الذي طالما كتب عن التوق إليها، وعن الهواء الفاسد، وعن الرغبة في الخروج من عتمة القمع، ولكنها اليوم لأنها كما يعتقد (الحرية) بزيها الإسلامي تشكل وحشاً قد يلتهم أحلام الشعراء فقط أولئك الذين خرجوا من جحر طوائفهم الخائفة.
في قصائده التي ينشرها تحت عنوان يوميات ناقصة في جريدة "الأخبار" اللبنانية المملوكة لحزب الله، وهذ دليل آخر على انحراف الرؤية، يبعث رسائله السرية الكهنوتية التي في أقربها إنسانية لما يحصل ربما يطلب الشاعر أن تقف الحرب فقط من أجل: (حسناً! سأقولُ: "يكفي...!"
إكراماً "لنا" سأقولُ: "يكفي!"
ليسَ لأنهُ يكفي
بل، فقط، لنرتاحَ مِن حَملِ كلِّ هذه الأسلحةِ وهذه التوابيت
ونتركَ البابَ مفتوحاً لـِما نحن في أَمَسِّ الحاجةِ إليه
مِنْ عقاقيرِ الندمِ، والمغفرةِ، والـ... نِسيانْ).
وتحت نفس العنوان لا يتوقف عن الاتهام المغمس بصلوات الغفران لأولئك الذين يرى أنهم سبب المأساة والموت الموزع على البلاد...فهؤلاء حتى يستحقون الغفران بالرغم من إشهارهم السكاكين...غفران مشفوع بتهمة القتل:
(اغفرْ للجميع!
الذين كذبوا، والذين تواطؤوا، والذين خانوا، والذين قالوا «كنا مخدوعين»، والذين صرخوا: "الموتَ، الموت!" ...
وحتى الذين أشهروا السكاكين وهَـمّوا بالذبح: اغفر لهم جميعاً!).
لكن أبو عفش يذهب أبعد من ذلك خارجاً على طقوسه المعتادة من العزف الناعم الكنسي إلى دعوات الخراب، يدعو باسم الضعفاء بخراب البلاد التي لم تعد تحتمل أوجاع الشعراء والخائفين والحالمين والموتى أن يهلك البلاد، فيما أصغر طفل سوري يرى يد القاتل وهي تدمر كل شيء، فقط باسترخاء شاعر يصل الشاعر إلى نهاية المشهد:
(يا ربَّ الأرضْ!
يا ربّ الشعراء، والحالمين، وفاقدي الأملْ!
ربّ الخائفين، والثكالى، والطيرِ، وضِعافِ البهائمْ..
يا ربَّ الأرضْ!
إنْ لم تستطعْ إصلاحَها
اِجعلْها خراباً).
ينهي أبو عفش كل ما يمكن أن يغفر لشاعر بقامته الفارعة من آثام الصمت والوقوف بصف كلمات القاتل وجبروته، ويبعث نداء استغاثة أخير لما أسماهم عشاق كلمة حرية:
كلُّ ما ليسَ "سلاماً" هو: جريمةْ.
(نداءُ استغاثةٍ أخير إلى عُشّاقِ كلمةِ "ثورة"):
.. .. ..
كفانا تَفاصُحاً في إعرابِ جوهرِ الحقيقةِ ومغزى الحقّ
فحين تكونُ أرواحُ الناس (الناسِ الذين ماتوا، أو الـمُدرَجينَ على قوائمِ الموت) حين تكونُ أرواحُهم لازمةً لتسهيلِ إعرابِ هذه "الأُحجية"، يغدو مِن حقّهم أنْ يَتَوجّهوا إليكم، مِن علياءِ مآسيهم، بهذه الصرخة:
اذهبوا جميعاً إلى جهنّم!
أنتم وجميع ما تَسعون إليهِ مِن مَزاعمِ الحقيقةِ وأهوالِ الحقّ: اذهبوا إلى جهنّم!
واعلَموا، اعلموا أخيراً، أنّ كلّ "ما ليس سلاماً" هو: محضُ جريمةْ.
وكلّ مَن لا يؤمن بعقيدةِ السلامِ هو: مجرَّدُ قاتِل.).
صاحب (كم من البلاد أيتها الحرية) يرى أنها لا تليق بشعبه الذي انتفض في وجه المستبد الذي طالما أراد هو الشاعر متنفذاً ليصرخ بهمس عن توقه لحرية تتسع فقط لكلمات وليس لبشر تعمدوا بالقمع.
صاحب دواوين "أيها الزمان الضيق... أيتها الأرض الواسعة، كم من البلاد أيتها الحرية، بين هلاكين، هكذا أتيت.. هكذا أمضي، أهل التابوت، إنجيل الأعمى"، ليس جديراً بمجد الحرية وهوائها الذي فقط يليق بمن دفعوا لأجله الدم، وهتافات الحالمين في شوارع الوطن...ولم يهربوا إلى جحورهم الأولى في (مرمريتا) حيث تحميهم عصابات القتل الوطني.
*ناصر علي - كاتب جديد من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية