أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ميشيل خياط: معايير النشر في سوريا تخضع لمزاجية أصحاب القرار

بعد رحلة 38 عاماً في الصحافة اليومية

صحيح أنني أُكثر من الحديث عن التقاعد وقد اقترب موعد إحالتي على المعاش بعد عدة أشهر، لكنني وفي أعماقي أو في قرارة نفسي مثلما يقال، غير مصدق أنني سأتوقف عن  أداء مهامي الراهنة» هذا ما بدأ به ميشيل خياط حديث الذكريات الذي خص به «العرب» قبل أن يُحال إلى التقاعد بأشهر قليلة، مضيفاً «أميل فعلاً إلى التقاعد وأقول لمن حولي سوف أُمضي الوقت في الحدائق العامة، لكنني أنظر حولي فأجد كل من تقاعد وخرج من الوظيفة، يركض ويلهث ويعمل هنا وهناك وأكثر من السابق بكثير، وتُفتح له الأبواب، ربما لأنه خبير أو قد اكتسب خبرة في عمله خلال ثلاثين أو أربعين سنة».


ويقول ميشيل خياط الذي قضى رحلة عمل طويلة في الإعلام السوري وبعد عشرات المحاضرات وإصدار الكتب وغيرها، «لم أصل في عمري المهني إلى الأربعين بعد، عملت في الجريدة التي أعمل معها الآن في أكتوبر من العام 1971، وعندما سأُحال على المعاش في مارس 2009 أكون قد أمضيت فيها ما يقرب من ثمان وثلاثين سنة، ولكن عندما صدر قانون ضم الخدمات سمحوا لنا بضم السنتين الخاصتين بالمعهد الإعلامي، ما يعني أنني سأتقاعد وقد أمضيت أربعين سنة في العمل الوظيفي الصحافي، وقد بدأت محرراً وسأخرج محرراً. وصلت في العام 1987 إلى مرتبة رئيس قسم وراوحت في مكانها حتى الآن والقصة طويلة».
وحول ما كتبه ولم ينشر طيلة مشواره الصحافي يقول: «نعم هناك مقالات كثيرة كتبتها ولم تُنشر وأحياناً تحقيقات وتقارير إخبارية، ولا يعود عدم النشر دائماً إلى تعارض مضمون المقال مع الخط الحكومي أو الحزبي في قضية ما، أحياناً لا تُنشر لعدم اقتناع رئيس التحرير بالمسوغات الواردة فيها، فذات مرة كتبت عن العلاقة ما بين الفقر والبطالة وازدياد نسبة الجريمة، فرفضها رئيس التحرير وكتب عليها معلقاً: ما الدليل، هناك الكثير من الفقراء الشرفاء، ومرة أخرى في النصف الأول من الثمانينيات، كتبت مقالة عن جناح مؤسسة الإسكان العسكري في معرض دمشق الدولي فرجعت وقد زُينت بإشارة ضرب كبيرة باللون الأخضر، كان علينا أن «نُخمّن» هل رئيس التحرير لا يحب مدير عام تلك المؤسسة، هل أسهم مدير عام تلك المؤسسة هابطة وسوف يُعفى من منصبه؟ وبالتالي لا يريدون أن نمدح مؤسسته؟»
وحول المواد الصحافية الناقدة التي كتبها ولم تنشر يقول: «نعم رُفضت أعمال صحافية كثيرة تنتقد بحدة خطأ ما، ولكن في المقابل نُشرت أعمال كثيرة من هذا النوع، وقيل لي: إن وطناً فيه من يكتب كل هذا الكلام بهذه الجرأة هو بخير، فكثيرون كانوا يقولون لي إنك تكتب عن الوضع المعيشي بحرقة وبمعاناة، وليس مجرد مقالات «رفع عتب»، ولقد اشتهرت بمثل هذه المقالات عن الرواتب والأجور وكان والدي المتقاعد -رحمه الله- يحفزني عليها ولاسيما أن راتبه التقاعدي كان أقل من ألف ليرة، حوالي 20 دولارا، وكان أبي أهم قرائي، كان يقرأ كل مقالاتي ويشيد بها».
ويضيف «كنت أظن أنني أفضل محرر اقتصادي في البلد، ولست أدري لماذا جرى استبعادي من الصفحات الاقتصادية، ووجدت نفسي محرراً بيئياً!!» ويضيف «نعم حدث مثل ذلك معي أكثر من مرة. فعندما حصلت على دبلوم الدراسات العليا في الترجمة والتعريب من اللغة الفرنسية في كلية الآداب بجامعة دمشق قالت لي الدكتورة حنان المالكي رئيسة القسم آنذاك، إنك الآن مترجم جيد من الفرنسية إلى العربية ويجب أن تصبح رئيساً لقسم الترجمة في الجريدة التي تعمل فيها، وأخذت بنصيحتها وقدمت طلب بنقلي من قسم التحقيقات إلى شعبة الترجمة، لكنهم نقلوني إلى قسم المراسلين وأصبحت رئيساً لهذا القسم. وتباعاً غرقت في العمل مع المراسلين وتفاصيلهم الكثيرة واحتياجهم إلى التدريب إلى أن نسيت اللغة الفرنسية».

فخور جداً جداً
ويتابع ميشيل حول عمله رئيساً لقسم المراسلين قائلاً: «عندما عرض رئيس التحرير أن أصبح رئيساً لقسم المراسلين رفضت بشدة فأنا محقق صحافي ناجح ومعروف، وكان من المنطقي أن أصبح رئيساً لقسم التحقيقات، ولاسيما أن قسم المراسلين كان عبارة عن قسم لتلقي الرسائل الهاتفية في وقت كانت فيه الاتصالات في سوريا رديئة جداً، كانت وجهة نظر رئيس التحرير آنذاك -الدكتور تركي صقر- أن المراسلين ضعاف باللغة وبالمهنة وأن الجريدة بصدد افتتاح عدة مكاتب في المحافظات، كان أغلب هؤلاء المراسلين من هواة الصحافة، وكان أعلى تحصيل علمي بينهم هو الشهادة الثانوية، واقتنعت أنني أمام واجب وطني كبير هو بناء كادر صحافي في وقت لا تستطيع فيه هذه الجريدة التي تمول نفسها ذاتياً أن توظف عدداً كبيراً من الصحافيين المدربين والمؤهلين ولاسيما في المحافظات. ورحت أعمل عشرين ساعة في اليوم الواحد لمدة خمس سنوات أهاتفهم وأتلقى رسائلهم وأقوم بزيارتهم وأعقد الاجتماعات معهم وأصحح لهم أخبارهم ومقالاتهم وأضع لهم العناوين الأكثر جاذبية. وقد اشتهرت الصفحة الخامسة في جريدة «البعث» بصفتها صفحة المراسلين، نعم كنت شديداً على المراسل قبل النشر، لكنني كنت مدافعا صلباً عنه بعد النشر، حتى ولو كلفني ذلك الاختلاف مع المدير ورئيس التحرير أيضاً».
ويضيف ميشيل «شهدت سوريا تغييرات جوهرية، وبدأ الاتجاه بقوة نحو تشجيع الاستثمارات والقطاع الخاص وظهرت الصفحات الاقتصادية، وكان لها بريقها، مما جعل الأداء -العادي- للمراسلين يفقد جاذبيته، وبات عليهم أن يبذلوا جهداً كبيراً لإبداع مادة صحافية لافتة للانتباه، وسط هذا المناخ الجديد لصحافة اقتصادية راحت تنشر ما كان ممنوعاً علينا الاقتراب منه في القطاع الخاص تحديداً. في هذه الحقبة تغيرت إدارة الجريدة، وبعد فترة قصيرة أُلغيت صفحة المراسلين، ولم يعد للقسم الأهمية التي تمتع بها سابقا»
ويتابع «في السنوات التالية أدركت أن هامش العلاقات الإنسانية أصبح ضيقاً جداً، وأنني كنت أعاند الطبيعة البشرية، فمن المستحيل أن أجعل من المرؤوسين أصدقاء دائمين. أما حالتي فهي فريدة، ظلوا يدرسوني 38 سنة إلى أن انتهيت، وكانت كل دراسة تشيد بخصالي وكفاءاتي ومهاراتي الممتازة. ربما هم أذكياء لكنني تعيس نسبياً، لقد ربحوا إنتاجي الجيد أما أنا فخسرت امتيازات هامة جداً لعل في مقدمتها السيارة وبنزينها وإصلاحها، لاسيما في الثمانينيات والتسعينيات عندما قُدت 13 مكتباً وما يقرب من سبعين مراسلاً، ولعل خير دليل على أهمية العمل المكلف به أنني في العام 1993 طلبت من رئيس التحرير الموافقة على عملي في التلفزيون لإنجاز 13 حلقة من برنامج أسبوعي فرفض وقال لي إنه سيخبر القيادة لتقرر، وعندما ناقشته مازحاً قال لي: يجب ألا تستهين بعملك عند مديرية تحرير!!»
ويعود ليبدي استغرابه قائلاً: «نعم أستغرب أنني سأتقاعد بعد عدة أشهر فقط، فأنا الآن أكثر قوة وخبرة ومعرفة من أي وقت مضى ولهذا أعتقد أن الإصرار الشديد على تطبيق هذا القرار بالإحالة على المعاش في الستين، هو من أهم عيوبنا الإدارية، وهو سبب في خسائرنا وعجزنا عن إنجاز الكثير من طموحاتنا. لقد حرم هذا القرار المدارس السورية والوزارات والمؤسسات من خبرة الخبراء، إنه كمن قطع بستاناً من الأشجار المثمرة. إذا طالبت بإلغائه سيقال إنني أطمع بالبقاء في الوظيفة».

العرب - دمشق - عماد الكركي
(139)    هل أعجبتك المقالة (145)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي