أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أنا من حلب... فؤاد عبدالعزيز*

حلب حيث الموت - جيتي

أشعر كغيري من السوريين، أن حلب اختصرت علينا الكثير من المفردات للتعريف عن أنفسنا وبلدنا، عندما أتينا إلى أوروبا، في البداية كنا نضطر لأن نقول لهم إن سوريا تقع بالقرب من "إسرائيل"، للمقاربة الجغرافية، لكن لاحقا وبعد أن شاهدنا المنتجات المرتبطة باسم حلب، كالفستق الحلبي والصابون، بكثرة في كبريات محالهم التجارية، سهّل علينا ذلك الكثير من المهام للحديث عن حضارة بلدنا وثقافتها، حتى أن الأغلبية منا أصبح يقول: أنا من حلب، كي لا يضطر لتقديم المزيد من الشروحات عن مدينته التي لم يسمع بها الأوروبي من قبل. 

مرة وقفت في صيدلية في فرنسا وأخذت أعاين أنواع صابون الغار الحلبي الكثيرة، والتي كان مكتوبا عليها بالعربية أنها صناعة حلب، فاقتربت مني الصيدلانية وراحت تشرح لي أن هذا الصابون صنع في مارسيليا المشهورة كذلك بهذه الصناعة، لكن بنفس المواصفات التي يصنع بها في حلب، فقلت لها: أنا من حلب .. ففغرت فاها وكادت أن تعانقني من الدهشة ..!!

لم يتغير شيء اليوم، لازلنا نقول: أنا من حلب، ولازال الأوروبي يستقبلنا بنفس الدهشة ... لكن شتان بين الدهشتين ...!! بين حلب الصابون والزعتر والفستق والفن والحضارة والموسيقا، وبين حلب الموت والدم والدمار والرعب والاستغاثات التي تنطلق من أفواه نسائها وأطفالها طالبة النجدة من العالم ... !!

فهل عرفنا الآن أي خدمة قدمتها لنا حلب، في ثقافتها الحية، وحتى وهي تستقبل الموت ؟!

حلب يا سادة هي المدينة التي شهدت مسقط رأسي وعشت فيها جزءا من طفولتي حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، ثم عدت إليها بعد عشر سنوات في نهاية الثمانينيات، لأنال منها شهادتي بكالوريا، وكم كانت حلب قد تغيرت عمرانيا خلال كل تلك السنوات، لدرجة أنني لم استطع التعرف على بيتنا الذي شهد ولادتي وطفولتي الأولى في حي "صلاح الدين" .. وعندما قال لي أخي الأكبر إن هذا بيتنا سابقا، وقفت أمامه محاولا بجهد أن أستعيد لحظات الطفولة .. لكني لم أستطع، فكل شيء في المكان كان قد تغير. 

وبالفعل، حلب كانت المدينة الأكثر تغيرا في سوريا، وغيابك عنها لعام أو عامين يعني أن أحياء كثيرة من العشوائيات سوف تظهر، ومدن حديثة وفيلات سوف تبني وشوارع وجسور وأنفاق جديدة.. أو بصورة أدق، كانت مدينة تنمو بشكل طفيلي ودون تخطيط، وهو ما انعكس على كل شيء فيها، بما في ذلك سكانها ... لهذا كان يطلق على حلب بأنها مدينة التناقضات، لأنها كانت مدينة "حدية" لا تقبل الحلول الوسط .. فإما أن تكون في حلب بالغ الثراء، أو فقيرا معدما، إما متدينا متصوفا أو منفلتا على الآخر، إما مثقفا وتحمل الشهادات العليا أو جاهلا أميا لا تفك الحرف، وهو ما جعلها تنقسم نفسيا إلى قسمين متناقضين تماما .. هما، شرقي حلب، حيث أحياء الفقر والجهل والتدين وأصحاب الحرف والمهن، وغربي حلب حيث أحياء الأغنياء والمتعلمين والأقل تدينا. 

وكان هؤلاء يعملون عند هؤلاء كـ"صنايعية" وحرفيين، بينما كان الأغنياء يتعاملون معهم بفوقية واضحة، وهو ما تسبب بالكثير من العقد لابن حلب الفقير الذي كان يحاول تقليد طقوس الأغنياء في الثراء وفي كل شيء.

ومن المفارقات، أن الحلبي الفقير كان يعتقد أن ما يميز الغني عنه هو بكمية الشواء التي يتناولها، فإذا ما استطاع إنجاز حفلة شواء كل أسبوع كان يشعره ذلك بأنه لا يقل شأنا عن غيره من الأغنياء ..!!

لقد لعب هذا التقسيم فيما بعد دورا كبيرا في ثورة حلب، فهي في جوهرها لم تكن ثورة على النظام الحاكم، وإنما ثورة أبناء الريف والفقراء على هؤلاء الأغنياء، ولعل المشهد في نهايته كشف عن هذه الصورة بشكل جلي، وهو ما لا نفضل الدخول في تفاصيله في هذا المقال ..!!

في الفترة الثانية من إقامتي بحلب والتي امتدت لعامين فقط، من منتصف العام 1989 إلى نهاية العام 1991 تقريبا، عشتهما كأنهما عقدان من الزمن، وذلك للدروس الكثيرة التي تعلمتها والمفارقات العجيبة التي صادفتني وساهمت في تشكيل وعيي فيما بعد. 

ففي حلب، بكيت لأول مرة، ليس حزنا على أحد أفراد العائلة، وإنما لقضية إيمانية.. يومها اصطحبني أحد الأصدقاء عند صلاة العشاء إلى مسجد في باب الحديد لحضور الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، وأخبرني أن أحمد حسون سوف يأتي ويلقي كلمة هناك. وبالفعل أتى الرجل فبكى وأبكانا جميعا على رسول الله "ص" .. وخرجت ذلك اليوم من المسجد ليلا وأنا أشعر بشعاع ينطلق من صدري، كانت المرة الأولى والأخيرة الذي ينتابني هذا الإحساس. 

وفي حلب تعرضت لأول عملية تحرش جنسي من فتاة، يومها راودتني على نفسها، فتمنعت عنها بشتى السبل إلى أن نجحْتُ فقالت لي باشمئزاز: "وبا"!! 

ورحت أروي لأصدقائي وأخوتي هذه الحادثة وكيف أنني أستطعت أن أنجو من شرها مثلما فعل النبي يوسف "ص" تماما، ولكن عندما كنت أخبرهم أنها قالت لي "وبا"، كانوا ينظرون إلي من فوق إلى تحت..! 

في حلب تعرفت إلى مؤذن مسجد حارتنا "أحمد العريان" في حي مساكن هنانو، الذي كان يملك صوتا جميلا، لا يمانع أن يستخدمه في حفلات الأعراس في القدود والمواويل والموشحات الحلبية، أو أن يغني للسكارى والحشاشين .. ولايزال صدى مواويله التي تتحدث عن الأنذال الذين يغدرون بالرجال، يتردد في رأسي حتى الآن، أكاد أستمع إليه كل يوم.

وفي حلب أيضا كانت لي أول معركة بالأيدي في مبنى كلية الآداب في العام 1990، عندما أراد أحدهم أن يأخذ دوري في الطابور، لأنه من اللجنة الحزبية، ولما قلت له: وإذا من اللجنة الحزبية؟! انقض علي كالنسر على فريسته .. ولولا صديقي ياسر أشقر الذي كان برفقتي وخلصني من بين براثنه، لربما كنت اليوم في حال غير الذي أنا عليه اليوم ... !! 

وحلب، مدينة لطالما استنجدت بها، عندما كنت أريد أن أتحدث عن نفسي ومواهبي والأمكنة العديدة التي تعرضت لها، وساهمت في تشكيل وعيي .. فيظن السامع أنني خارج للتو من كتاب "عبقرية المكان" لـ"جمال حمدان". 

في نهاية العام 1991، اتخذت قراري بالرحيل عن حلب والدراسة في دمشق، كان جميع أفراد أسرتي، يعلمون أنني ذاهب بلا رجعة، لأنني بدأت أشعرهم أنني أصبحت جاهزا لحياة أخرى أكثر صعوبة، لذلك عندما هممت بالخروج من البيت الساعة الثانية عشرة ليلا، تشبثت بي والدتي "رحمها الله"، كأنني لازلت طفلها الأبدي، كانت تنشج وتقول لي: أين أنت ذاهب يا حبيبي .. كيف ستعيش وحدك في الشام ..؟
لكني أفلت من بين يديها، وأخذت أنزل الدرج مسرعا من الطابق الخامس، وبدون أن أنظر إلى وجهها، وعندما صرت في الأسفل كنت لا أزال أسمع أنينها.

امام البناء كان ينتظرني أخي الأكبر لكي يقلني بسيارته "السوزكي" إلى محطة القطار في شارع بغداد..في الطريق لم نتبادل الكلام كثيرا، كان أخي مكفهرا وكأنه يشيعني إلى مثواي الأخير، وعنددما وصلنا إلى المحطة، لم يستطع أن يعانقني كالرجال، رأيته يهرب في الظلام مداريا وجهه الذي اختنق بالدموع.

كنت الوحيد الذي لم يبك أو يتأثر ذلك اليوم، بل كنت أسابق الخطى للرحيل عن حلب بأسرع ما يمكن.
في أول محاضرة في قسم الصحافة في جامعة دمشق، سألني الدكتور وهو يتعرف على الجميع: من أين أنت يا ابني ..؟ صمت لبرهة، ثم قلت له بدون تردد: أنا من حلب. 

*من كتاب "زمان الوصل"
(217)    هل أعجبتك المقالة (229)

محمد علي

2016-12-20

و النعم منك فؤاد عبد العزيز و من حلب.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي