أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

اعطونا محارم يا جماعة..!!*

من حلب - الأناضول

عاش والدي في مدينة حلب لأكثر من ربع قرن، من عام 1954 وحتى توفاه الله نهاية العام 1979، وكان طوال هذه الفترة يحلم بالعودة إلى بلده في حوران بالقرب من بصرى الشام، إلا أن حلمه لم يتحقق إلا قبل رحيله بأربع ساعات.. يومها أدركت والدتي منذ الصباح، وبحس الزوجة الوفية، أن والدي المريض لن يعيش حتى المساء، فأخذت تسابق الزمن لنقله إلى بلده وتحقيق حلمه بالعودة ولو إلى قبر. 

ربع قرن كاملة لم يستطع والدي أن يندمج بالمجتمع الحلبي، وظل يحس بالغربة رغم الصداقات الحميمة التي كانت تربطه مع زملاء العمل ومع الجيران، وكان إحساسه بالغربة ناتجا أولا عن الخوف من أن تحل بالأسرة مصيبة ولا يجد من أهله من يقف إلى جانبه. وثانيا كان دائما يردد بأن الغربة "مضيعة الأصل"، وهو الذي كان يشعر أنه ينتمي إلى أسرة عريقة في حوران، وكان أكثر ما يزعجه عندما يسأله أحدهم في حلب أين تقع درعا..؟ فيستشيط غضبا ويوبخ السائل على الفور. 

كل ذلك دفعه إلى أن يبحث عن أي شخص من حوران في حلب، ولو مارا بالطريق إلى الحسكة، وكان يدعوه إلى منزلنا ويعرف الجيران عليه، من أجل أن يقول لهم بأنه ليس مقطوعا من شجرة وأن له الكثير من الأهل والأقارب. 

أخبره مرة أحد الجيران أن مسؤولا كبيرا من درعا تولى منصبا رفيعا في حلب. وكان المقصود رئيس الوزراء الأسبق محمود الزعبي الذي شغل في منتصف السبعينيات مدير مشروع سد الفرات.. فوجدها والدي فرصة كبيرة للاستعراض أمام الجيران، وقرر أن يذهب إليه في مكتبه ويدعوه على الغداء في منزلنا المتواضع الذي كان آنذاك في حي صلاح الدين، وأعلن أمام الجيران أن المسؤول الكبير سوف يأتي إلى بيتنا، فمن له حاجة فليجهزها، وبالفعل، ذهب والدي برفقة أخي الكبير إلى مكتب محمود الزعبي، لكنه عاد عند الظهيرة وهو يجر ذيول الخيبة، قال يومها أمام الآخرين إن محمود الزعبي اعتذر عن العزومة بسبب مشاغله الكثيرة، لكنه وعده بزيارة قصيرة، لكن من لهجته عرفنا أن الرجل رفض استقباله..!! 

عادت الأسرة بعد وفاة والدي إلى درعا، وذلك في منتصف العام 1980، على إثر أحداث الإخوان المسلمين، إذ تحولت حلب وقتها إلى جحيم لا يطاق، والمفاجأة أن إحسان الغريب ظل يلاحقنا، ففي حلب كان اسمنا الحوارنة وفي درعا أصبح اسمنا الحلبية.. !!

كل هذا الشريط مر على ذاكرتي بينما كنت جالسا أمام موظفة العمل الفرنسية وهي تستغرب كيف أني بعد أربع سنوات من وجودي في فرنسا، لم أحقق أي شيء على صعيد الاندماج، فلم أتعلم اللغة، ولم أجد عملا، والأسوأ من كل ذلك أنه ليس في ذهني أي تصور عن مستقبل وجودي في هذا البلد.. وأرفض أي عمل آخر سوى الصحافة. 

قلت بيني وبين نفسي: ماذا أقول لهده المخلوقة العجيبة..؟ وكيف أفهما أنني ابن ذاك الرجل الذي عاش في بلده، في مدينة لا تبعد عن قريته أكثر من 500 كيلو متر، ومع ذلك لم يستطع الاندماج، وظل يشعر بالغربة والحنين وبالعودة إلى قريته ولو إلى قبر. 

هل أقول لها كما كان يقول والدي "الله يلعن الغربة مضيعة الأصل"؟!
أفضل شيء، أعطونا محارم يا جماعة.

*فؤاد عبد العزيز - من كتاب "زمان الوصل"
(272)    هل أعجبتك المقالة (317)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي