ترى، لو سألنا عن عدد الحوارات السياسية التي أقيمت منذ مطلع الثورة عام 2011 حتى تاريخه، حوارات بعيدة عن التشكي والنواح والاستعطاف، حوارات سورية بعيدة عن الوصاية والارتباط، حوارات ترقى إلى مستوى تضحيات السوريين، لتكون منطلقا قابلاً للترجمة على الأرض، وبعيدة عن الرغبوية والأماني، أو حتى الغرق بالتوصيف ورمي جل ما آلت إليه الثورة، على العامل الموضوعي، وكأن أنقرة أو الرياض، أو حتى واشنطن، معنيون بإسقاط نظام بشار الأسد وإجلاس المعارضة على كرسي الحكم.
حوارات تعيد، ولو بمنهج الصفعة، بعض أمل للسوريين، بعد شبه انسداد الأفق، وبدء تعالي أصوات، تدعو للاستسلام والاعتراف بهزيمة الثورة، أمام حلف يتنامى تباعاً، بعد وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض، وتوقع وصول أنصار للرئيس الروسي بوتين في فرنسا، وكل ما يُعزف على هذه النغمة التي تروّج لإعادة إنتاج الأسد، ووضع طلاب الحرية والعدالة أمام خيارين لا ثالث لهما، الرضوخ للظلم والاستبداد لأن العالم، بدوله ومؤسساته على اختلاف تبعيتها ودورها ومهامها، إنما انحرفت لصالح الأقوياء، أو –الخيار الآخر- حفر القبور وانتظار الموت.
حوارات تنطلق من الإنسان السوري وله، بعيداً عن التطييف والتمذهب والوقوع بفخ الرد على نظام الأسد بسلاحه، حوارات تنطلق حتى من إعادة التعريف والتوصيف، بعد الخلط المتعمد الذي وصل إليه السوريون، لتتحدد مشتركات ولو بين نواة صلبة، تكون بداية ولو متأخرة، على اعتبار أن حلم السوريين بالحرية والمواطنة، بعيد ومفروش بشتى أنواع العذابات والتضحيات والدماء.
ربما الإجابة مخيبة، إن لما يتعلق بعدد تلك الحوارات ومضامينها السياسية المنطلقة من الممكن، أو بمآلاتها وكيف تم شراء بعض مطلقيها أو بيع معظم شعاراتها، المنطلقة من رؤى ضيقة تزيد من تكريس الإقصائية ومن تفتت السوريين وأحلامهم العريضة، التي أطلقها الثوار أيام صوفية ثورة السوريين.
قصارى القول: أطلق التجمع الفلسطيني السوري "مصير" مساء أمس السبت في اسطنبول، "مبادرة الإنقاذ الوطني السوري" المطروحة للنقاش العام، أتى القائمون عليها على مراجعة للواقع ومحاولات تشخيص للأسباب، السورية على اختلافها، عسكرية وسياسية واجتماعية، والموضوعية التي أنتجت مآزق الثورة، المركبة ومتعددة المستويات.
ولم يكبر "مصير" حجم الآمال، بقدر ما آثر على الدعوة لكسر احتكار النخب وسراق تمثيل السوريين، ليؤسس عبر حوارات لاحقة، مجتمعا سياسيا يعي خطورة المرحلة ويعيد بالآن نفسه، القرار للسوريين، معتبرة -المبادرة- أن بداية الحل تتجلى بعقد مؤتمر وطني سوري تدعو له هيئة توافق وطني من ممثلي القوى السياسية والمدنية والعسكرية، لبناء مظلة توحد جهود السوريين على نحو مؤسسي يحقق عدالة التمثيل، للسوريين الذين تم تغييبهم والحديث باسمهم، إن من مؤسسات قدرية أعادت للسوريين مشاهد "أبدية الأسد" أو دول لها الحق بإلغاء رأي وحلم السوريين، لطالما عسكرت ومولت ونابت عن ثورة السوريين بالمحافل الدولية.
نهاية القول: مبادرة "مصير" السوريين إلى أين، التي حركت المياه الراكدة بين أوساط عدة امس باسطنبول، لا أتوقع أنها ستلقى دعماً دولياً، على الأقل كالذي لاقته المبادرات الفردية النفعية التي ساهمت بحرف وتحريف الثورة، كما أعتقد أنها غير مكتملة الملامح، على الأقل لجهة الأدوات وما يرقى لتسميتها بالمبادرة، فضلاً عن أنها تأخرت، فقط خمس سنوات.
بيد أنها، ورغم ذلك وربما غيره، خلقت بداية على صعيد ضرورة التفكير بسياسة والعمل بحس وطني يعيد القرار للسوريين، وبشكل ومخاطر الصراع مع نظام باع كل شيء كرمى لكرسي ولو لأجل، ومع تمثيل للمعارضة فقد قراره بعد أن باعه مقابل وعود ومصالح ضيقة لا ترقى إلى مستوى تضحيات السوريين.
مبادرة ليست جديدة على صعيد "المبادرات" وغير مكتملة كما أعلن مطلقوها ودعوا لإغنائها عبر حوارات ولقاءات، لكنها مبتكرة على مستوى الطرح السياسي بفكر سياسي، بعيد عن الاتهامية والشكائية والتسليم، لأن انتصار الثورة التي تأصلت بنفوس وعقول السوريين، لم يعد خياراً أو ترفاً، رغم كل التبدلات الإقليمية والدولية، وكل ما يروج عبر انهزاميين، من القبول بقضاء الأقوياء وقدر العين لا تقاوم مخرزا.
*عدنان عبدالرزاق - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية