أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

اشتقت.. أمي التي نسيت شكل وجهي*

أم من حلب تعيش الموت مجددا - جيتي

تقول لي الشقيقة: "سمعت أمي تقول إنها نسيت شكل وجوه أولادها".. ودون أن أقدم مبررات، فإنني أشعر بالعار والحزن لأني تركت أمي الثمانينية في بلد آخر، وإن كانت محاطة بخمسة من الإخوة والأشقاء.

عندما غادرت قبل أكثر من عامين ونصف، لم أر دمعة في عينيها، فقط سمعت دعاءها، مثل كلّ أمّ، مثل كلّ أمهاتكم البعيدات أو اللاتي رحلن، لم يكن رحيلي ذلك اليوم خياراً فرديّاً، وأنا الذي ابتعدت عن أطفالي قبلها لعام ونصف لأسباب قاهرة، أهمها أبواب العرب التي أوصدت في وجوه السوريين، فكان لا بد من دولة "كافرة" تجمعني بهم، حتى في رحلة السفر وعندما كانوا قادمين من دولة عربية، لم أستطع تلبية رغبة أمّي برؤيتهم قبل الرحيل، فقد كان القانون يضعهم على قائمة مقيّدي الحركة، وصلوا إلى المطار قبل ليلة وباتوا في فندق لا أستطيع جلب أمّي إليه لرؤيتهم هناك.

لا أخبركم بحجم اشتياقي لأمّي لأن هذا لا يحتاج استمالتكم عاطفياً، وفي الدولة "الكافرة" أمّن لي القانون تأشيرة زيارة لها، ولم أتجرأ نقلها إلى حيث أعيش ولو ليوم واحد، لأنها اختارت المكوث في قرية مقابلة على الحدود لمدينتي في سوريا، أمّي تحب التراب الأحمر، وصخور البازلت وبيوت الحجر الأزرق في حوران، وهي الحزينة لا تبوح بخوفها من ترك خمسة أبناء في ذلك البلد لرؤية واحد من أربعة آخرين رمت بهم الريح في كل الاتجاهات. 

 وأنا الجبان الهش أخبركم بأنني أكلِّمها عبر هاتف أحد أشقائي كل "حين ومين"، وكلّما فكرت بسماع صوتها أشعر بالحزن والخوف والعار، لا أدري بماذا أخبرها، هل أخبرها بأنني لاجئ ينعم بالأمن والأمان، أم أنني أعيش بلا رئتين، فقد اختلط عليّ الهواء، وحتى إنني لم أعد أشتمّ الروائح لأن رائحة ثوبها عالقة في رأسي مثل جنين في رحم امرأة.

كلما أكلت قطعة خبز علق نصفها في حلقي، وأعرف أن امرأة مثل أمّي لا تجوع لطعام، وهي التي كانت تأكل بعد أطفالها ما بقي من زاد الأمس.

كم أنا جائع يا أمّي.. ها أنا ألتهم كل يومٍ حزن العالم مستذكراً رغيفك الساخن، وصحن اللبن الطازج قبل أن ترسلني يداك ممشط الشعر إلى مدرستي.

كم أنا مذنب يا أمّي وأنت التي يلتهب قلبك وأنت تقفين على الضفة المقابلة لقريتنا خلف الحدود .. ترقبين غيمة تسرح فوق كرمنا وبيتنا، وتفكّرين برجل قضيت معه خمسين عاماً ورحل ببرود دون أن يشاركك وداع البيت وأشجار التين والزيتون وأطفال الأمس.

قال لي والدي قبل أن يموت إنه لا يتذكر أن "حمدة" نامت على غير وسادته طوال نصف قرن، وكان يردد: تنام بعدي، وتستيقظ قبلي، تأكل وتبكي دون أن يراها أحد، وتضحك مثل "نبعة ريحان" على شبابيك بيتنا.

لماذا نسيت وجوهنا يا أمي .. هل فعل الزّمن فعله .. أم نحن الذّين فعلنا؟!.

حدثني شقيقي الأكبر أن العسكر اقتحموا بيتنا الوادع قبل أن يتركه مصطحباً أمّي.. قال لي إنّ ضابطاً صفعه بلا سبب داخل مضافتنا، فهاجمته أمّي مثل لبؤة، لو استطاعت لمزقت وجهه لكن وقف العسكر بينها وبينه، يومها احتلّ الجنود سطح الدّار ونصبوا قناصتهم... لكن مدفعيتهم أجبرت أهلي على الرحيل.

رحلنا جميعاً وبقي الحنين .. رحلنا وتركنا رائحة الموت خلفنا..ماتت أشجار الدّار وورودها، وسرق العسكر عباءة أبي وما تبقى من طحين وقمح وسمن.

اليوم وكلّ يوم أشتاق لأمّي .. هي كلّ ذكريات الوطن الجميل.. وقبل أن أنهي فقد عرفت للتو أنّ واحدة من شقيقاتي عادت إلى قريتنا مع أولادها .. كلّفها الأمر أن تقطع مسافة 10 كيلومترات فقط .. هي مسافة قصيرة لكنها مليئة بالألغام والأهوال..غداً سنعود .. فأمي تنتظر أن ترى وجهي لتتذكره مجدداً.. وأنا أريد أن أصطحبها إلى الدار والكرم .. أريد أن أرى "نبعة الريحان" .. أريد أن أشمّها وأستعيد حواسّي القتيلة.

*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
(207)    هل أعجبتك المقالة (223)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي