نهاية العام 2012 ومنتصف 2013 تهيأت لي الظروف كي أدخل سوريا من تركيا والأردن لتغطية واقع البشر وتبدلات الأرض في الشمال والجنوب، وخلال الزيارتين جلست مع عناصر من الجيش الحر، يمارسون حياتهم الطبيعية كبشر، يخطئون ويصيبون، بينهم مدخّنون، وبينهم من يشربون الخمر، وبينهم ملتزمون دينياً، كل من رأيتهم كانوا مثل أي سوري قبل 2011.
وبما أن موضوعي هو مفهوم الدين وعلاقته بالموت فقد رصدت وبشكل طبيعي أن هؤلاء المقاتلين الثوار كانوا مشروع "قتيل"، وبطبيعة الحال فإن أحداً من هؤلاء لم يتردد في أن ينسب نفسه إن مات مقتولاً إلى الشهداء، وليس من مدخل سوى أن يقول "الله أكبر"، وأن يستبق كلمة الدفاع عن الوطن بالتأكيد على أنه خرج في سبيل الله، لكن هذا لم ينف ولو للحظة أن هؤلاء يمكنهم أن يضحّوا من أجل أعراضهم وبيوتهم، وانتقاما لموت أطفالهم وإخوتهم.
لم أجد حرجاً في أن أبرر لهم ذلك على اعتبار أنني قد لا أختلف عنهم إن حملت بندقية ودخلت معركة تكون احتمالات الموت فيها أعلى من واحد بالمئة، وكنت سأفضل أن أبحث عن ميتةٍ تريحني وتريح أهلي، وفي مجتمعنا البسيط لا أحد يقبل الموت من أجل موسيقا "موتزارت" أو قصائد نزار قباني، أو مطاعم بلودان والربوة، في الوقت الذي يكذب فيه خصوم السوريين بإقامة مهرجانات للسكر والعربدة والصدور العارية، وكأنهم يقولون بأنهم حماة ثقافة الحياة.
وبالمناسبة فإن المياه المقدسة للبطريرك الروسي على طائرات بلاده التي تقصف أطفال حلب، ودروس الدعم الديني لحاخامات إسرائيل قبل توجه جنودها لقتل الفلسطينيين، كلّها ضروب من إدخال السماء في الحرب وفي القتل، فكيف إذا كان الأمر مرتبطاً بثوار يواجهون أقسى وأعتى آلات الموت.
إذن لماذا لا يبدو الله بريئاً على لسان مقاتلي الجيش الحر، فيما تمرّ مرور الكرام حرب المراقد الشيعية، وحليقي الرؤوس العلويين، وباقي الحروب التي تندلع بدمغة دينية.
لقد لعب المتشددون دوراً سلبياً في تشويه الصورة، وأعني هنا متشددو القاعدة وتنظيم الدولة وحتى جبهة النصرة أضف إلى بعض التشكيلات التي اعتقد ممولوها أن الله لا يتبدّى في مصطلحات الثورة والدفاع عن العرض والوطن، وأذكر أنني عندما وصلت الأردن مطلع 2013 وفي حوار مع سائق "التكسي" السلفي الملتحي خرجت عن طوري، عندما اتهم الرجل كل من خرج في ركاب الثورة السورية بالكفر، ثم أتبع أنه لا يجوز الخروج على ولاية الحاكم دون فتوى، وها نحن اليوم ننعم بفتاوى السلفية الجهادية التي تصدّر خطاباً جاهلياً، وبصور الحرق والتقطيع والإعدام بالصواريخ الذي يمارسه تنظيم الدولة، وعلى اعتبار أن هؤلاء من السنّة فإن ابن حمص الذي قابلته في درعا، وكان يدخّن ويحدثني عن حبيبته، وعن الحب والجمال هو في نفس نسق البغدادي بنظر العالم اعتماداً على سوء التسويق الإعلامي للثورة، و"بروباغندا" الرّعب الذي خلقته "داعش" لدى مئات الملايين من البشر.
أما أصدقائي من المسيحيين الذين قرروا منذ أول شهر أن الثورة السورية، هي ثورة سنيّة، فكان الأمر غير ذلك، وقد ساهموا هم بتطويرها لتصبح ثورة سنيّة، ولا أعلم كيف كان معظمهم يعيشون وسط السنّة، ويسهرون معهم ويشاركونهم أعراسهم، وبعضهم يصوم في الشارع احتراما لمشاعر المسلمين، كيف فقدوا الثقة دفعة واحدة بشركائهم.
في بلادنا إن فوجئ عاشق بقبلة من حبيبته قال "الله أكبر"، وإن سقطت قنبلة فراغية على بناء فيه أطفال ونساء قال الناس "الله أكبر".. ويحكى أن "الله أكبر" أصبحت دليلاً على أن من يقولها متشدّد يستحق الموت.
صحيح أننا نعاني تلاشي مفهوم الوطن والمواطنة الذي تشهده المجتمعات المتحضرة، إلا أن الخبز في الشرق لا يشببه خبز الغرب، وليس مطلوباً أن تجبر الياباني "النباتي" على أكل "السوس" المكسيكي اللاهب، ولا أن تجبر السعودي على أكل وجبة القطط الصينية، هكذا انتهت البشرية وهو ما دأبت عليه لآلاف السنين.
لا أعتقد أن مقاتل الجيش الحرّ سيتخلّى عن "اللّه" حتى ولو كان سكّيراً .. وما ينقصنا فقط هو أن تهدأ الأمور حتى نفتتح مسارح لعروض فرق الراقصات الروسيات في حوران والرقة، أنا شخصياً أضمن أن تمتلئ تلك المسارح عن آخرها .. وأن يبقى المؤمنون مؤمنين.
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية